لم أستسلم لليأس وأحمد الله أن منحني القوة لأكمل المشوار مع ابنتي
انتظرتُ قدوم طفلتي إلى عالمي ثلاثة أعوام، لم أفقد الأمل في رؤيتها يومًا بل كنتُ على يقينٍ بأنَّ الأيام تأخذني نحوها...
جاء ذلك اليوم الذي انتظرتْهُ أمومتي، فقد أخبرني الطَّبيب بوجود نبضها هناك بين أحشائي. لن أحدِّثكم عن مقدار السَّعادة التي اندفعتْ إلى كلِّ جسدي، فهي لا تقدَّر بثمنٍ ولا توزن بموازين الأرض. بالغتُ في العناية بي؛ لأنَّ جسدي نقطة وصلٍ بها، أبعدتُه عن كلِّ ما قد يسبِّب بأضرارٍ في حملي، تحمَّلتُ صداع الرَّأس، وألم دوالي السَّاقيْن، ووحام الحمل، ورفضتُ أخذ أيِّ مُسكِّنٍ للألم حتَّى وإن ثبت طبيًّا أنَّه آمنٌ ولا يضرُّ الجنين. ورحتُ أتناول كلَّ مفيدٍ من الغذاء والشَّراب دون حسابٍ لشكل جسمي، وأذكر مرَّة أنِّي خرجتُ من صالة أفراحٍ لأنِّي شعرتُ أن الصَّوت العالي للموسيقى والغناء أزعجها وجعلها تركلني دون توقُّفٍ مدَّة ربع ساعة، وبالفعل هدأتْ حركتُها بعد مغادرتي للصَّالة. كنتُ كلَّما ذهبت لمراجعة الطَّبيب أجعله يعدُّ أصابع يديْها ورجليْها، وأجعله يتأكَّد من سلامة أعضائها الحيويَّة، ولا أنفكُّ أسأل عن وزنها، وقياسات الرأس دوالأطراف، وأتَّبع نصائحه بدقَّةٍ متناهية. رحتُ أعدُّ الأيام عدًّا وأشغل نفسي بخياطة حلَّةٍ زهريَّةٍ ناعمةٍ لسريرها، وتزيين الضِّيافة التي سأقدِّمها للأقارب والأصدقاء، وشراء أفضل أنواع القرفة. حتى دنا مني يوم ولادتها الموافق 6/7/2002 ..
استيقظتُ في المستشفى وأنا لا أكفُّ عن ترديد "أريد أن أرى ابنتي.. أين هي؟" لكنَّ زوجي كان يمتنع عن ذلك وكانت حججه مقنعةً بالنِّسبة لي، إلى أن أُخبرتُ بخبرٍ زلزلني، فقد كانت طفلتي تعاني من الشّفة الأرنبيَّة مع شقٍّ في اللِّثة العلويَّة وانحراف في الأنف، لم يسبق لي أن سمعتُ بهذه الحالة أبدًا، لكنَّ شيئًا ما في داخلي جعلني مُتماسكة، هادئة رغم الإعصار الذي يقتل قلبي. رحتُ أنظر إلى طفلتي التي تبكي طالبةً الحليب، وربَّما الأمان، وحملتُها.. خاف طبيبي كما خاف جميع من حولي من نتائج الصَّدمة التي أتعرَّضُ لها، فقد اعتقدوا أنِّي سأنكرها، أو سأحمِّل أحدًا ما مسؤولية ما حدث، أو سأنهار نفسيًّا، وهذا ما يخافونه على إمرأة خرجتْ قبل لحظاتٍ من غرفة الولادة. احتضنتُها وغصَّةٌ مريرة تشقُّ قلبي، سكتتْ عن بكائها وأمسكتْ بأصابعها الصَّغيرة خدِّي، أقسمتُ حينها أنِّي سأكون لها الملاك الحارس، وسآخذ بيدها حتى نخرج سويَّةً من هذا الامتحان الإلهي، وساندني زوجي الحبيب مشكورًا في كلِّ خطوةٍ خطيتُها قبل وبعد ذلك.
بدأ المشوار الصَّعب، يتخلَّله حديث الناس، غمزهم، لمزهم، بعض الشَّفقة، كثير من الفضول، لكنِّ الله وهبني قلبًا لا يبال إلَّا بأسرتي، عرضتُها على أطباء من ذوي اختصاص الوجه والفكَّيْن، وأكَّد لي بعضهم بأنَّ صغيرتي لن تستطيع النُّطق، وهذا ما جعلني أبكي كلَّما أويتُ إلى فراشي. أرشدني الله إلى هذا الطَّبيب ، وأذكر أنَّه في زيارتنا الأولى قال لي أنَّه يريدني أن أتنبَّه إلى نقطتيْن، الأولى ألَّا أشعر بالذَّنب لأنَّ هذه الحالة لم أسبِّبها أنا للطِّفلة واستدل على كلامه بنتائج وبحوثات طبيَّة، والثَّانية أن أضع الطِّفلة نصب عينيْ فهي ستكون صاحبة موهبة عظيمة وستكشف لي الأيام عن ذلك. أُجريت لها عمليَّة جراحيَّة كبيرة لمَّا بلغت الثلاثة أشهر، امتنعتْ بعدها عن الرضاعة الطبيعية لأنَّها كانت تتألَّم، حيث تحتاج الرضاعة الطبيعية إلى جهد أكبر من قبل الطفل، لم أفقد إيماني بالله خلال تلك المراحل العصيبة التي مررتُ بها، كما أنِّي ثابرتُ على الحديث معها، في كلِّ شيء! وكنتُ كلَّما حادثتُها أرى بريقًا في عينيْها، وابتسامةً على شفتيْها، إلى أن بدأتْ تُناغي وتطلق صيحات فرح بريئةٍ وطبيعيةٍ في ذات الوقت. طوَّقتُها وكلُّ الأهل والأصدقاء بالحب، بالحنان، فلاحتْ على مُحيَّاها ملامح الذَّكاء والفطنة، وسبقتْ أقرانها في كلِّ شيء، فقد خطتْ خطواتها الأولى في نهاية شهرها العاشر، ونطقتْ قبل إتمامها عامها الأوَّل، وأذكر أنَّ أباها أخذ يلقِّنُها حروف اللُّغة العربيَّة والإنجليزيَّة ويبكي فرحًا كلَّما أعادتْ نطق الحرف بشكلٍ صحيح، كما أنَّها تخرَّجتْ من مرحلة الرَّوضة وهي تستطيع قراءة الجريدة. لكنّي كنتُ أتألَّم في كلِّ لحظةٍ أراها تكبر أمام عيني، فقد كنتُ أتخيَّلها وهي تسألني عن شفتها العليا التي فيها آثار ندوبٍ بسيطةٍ من العمليَّة، وعن أنفها الذي فيه قليل من الإنحراف( الخارجي وليس الداخلي) وعن سنِّها المفقود نتيجة عدم اتِّصال اللِّثة العليا ببعضها سابقًا قبل العمليَّة.
هيَّأتُ نفسي طيلة عشر سنوات لهذا السُّؤال، وعملتُ كثيرًا على النَّاحية النفسيَّة لها، فغرزتُ بها الثِّقة بنفسها، وصرفتُ نظرها عن المظهر الخارجي، وعزَّزتُ ذلك من خلال مشاركتها بالإذاعة المدرسية، فقد علَّمتُها الإلقاء، والقراءة التعبيريَّة، وزوَّدتُها بالقصص والمجلَّات الخاصَّة بالأطفال، حتَّى أصبحتْ تقدِّم الإذاعة المدرسيَّة يوميًّا وهي في الصَّف الثَّالث الأساسي، فكنتُ أُعدُّ لها البرنامج، وأُدرِّبها على إلقائه حتى لُقِّبت من قبل مديرية تربية تلك المنطقة بالمذيعة الصَّغيرة. بعد ذلك بعام خضعتْ لجراحةٍ أخرى تحت بند "جراحة تجميليَّة وظيفيَّة"، فأخذ جزء من عظم الحوض الإسفنجيِّ وتمَّ زراعتُه في الفكِّ العلوي وتحت قاعدة الأنف، وقضت أسبوعًا ثقيلًا في المستشفى، عمدتُ فيه وضع برنامج مفاجآتٍ لإدخال الفرح إلى قلبها، فقد دعوتُ صديقاتها لقضاء بعض الوقت معها، واشترى لها والدها لها حاسبًا محمولًا كما تمنَّتْ، وحمَّل عليه برنامجها المفضَّل" حكايا عالمية"، وملأنا غرفتها بالبالونات والألعاب والدُّمى، ودعوتُ شخصيَّتها الإذاعية المحبَّبة إلى زيارتها بلباسها الكرتونيِّ الجميل، ومضتْ الأمور على أفضل ما يرام. ذات يوم فاجأتْني بورقةٍ مختومةٍ من إدارة مدرستها وفيه رجاءٌ من المديرة بمتابعة موهبة ابنتي، وكانت تلك أولى خطواتها في عالم الكتابة، لم أدَّخر جهدًا، جريتُ بها من منطقةٍ إلى أخرى، ومن مركزٍ ثقافيٍّ إلى آخر لصقل موهبتِها، وكنت أغيِّر أربع حافلات لمدَّة سنتيْن للوصول إلى مركز متخصِّص، لكنَّ المشكلة كانت في استثناء مشاركاتها في المسابقات المحليَّة والعربيَّة لعدم تصديق اللِّجان بأنَّ كتابتها تعود لطفلة في الصَّف الرَّابع. لكنِّي أخذتُ على عاتقي دعمها، فأكملتُ مشواري معها حتى تعرَّفتُ على كتَّاب وشعراء، وطلبتُ منهم اختبار موهبتها، وبحمد الله نجحتْ في اختباراتهم وسط ذهولهم، وأصبحتْ بعد ذلك تتقدَّم للمسابقات مع إرفاق شهادةٍ موقَّعةٍ من أحد الكتَّاب المشرفين عليها تُخبر لجنة التَّحكيم بموهبةِ صغيرتي، فبدأتْ تحصد الجوائز والمراكز الأولى في القصة القصيرة على المستوى المحلي والعربي، وتهافتتْ عليها وسائل الإعلام المختلفة من إذاعةٍ وتلفزيون، وأثارتْ ضجَّةً كبيرةً في وسائل التَّواصل الإجتماعي خاصَّة بعد أن لُقِّبتْ من قبل رابطة الكتَّاب الأردنيين بأصغر قاصَّة في الأردن. ثمَّ عُرض عليها تقديم برنامجيْن إذاعييْن على إذاعة مرموقة، فكنتُ كالعادة أُعدُّ لها البرنامج، وهي تتألَّق في تقديمه، وكانت أصغر مذيعة في تلك الإذاعة. بعد ذلك أصدرت كتابيْن للأطفال بدعمٍ من وزارة الثَّقافة، وكُرِّمت في مهرجان الإبداع الطفولي من قبل وزير الثَّقافة، وتمَّتْ دعوتُها من قبل مهرجان الشَّارقة القرآئي 2018م للمشاركة في فعاليَّاتها، وحقَّقتْ فوزًا كبيرًا هذا العام بحصولها على المركز الأوَّل على مستوى المملكة في المسابقة الأدبيَّة التي تقيمها وزارة التَّربية والتَّعليم، وحصلتْ كذلك على المركز الأوَّل في مسابقة الإبداع الطُّفولي التي أقامتْها وزارة الثَّقافة، وتحضِّر حاليًّا رواية لليافعين. بقيتْ لها عمليَّة جراحيَّة تجميليَّة للأنف، ووضع تقويم للأسنان بعد زراعة السِّن المفقود، وأفضل توقيت لذلك هو عند بلوغها سن الثَّامنة عشر حتى يكون نمو الوجه قد اكتمل. أحمد الله على منحي هذه الشُّعلة المنيرة، أحمده على منحي الصَّبر خلال رحلتنا، وعلى السَّعادة التي كلَّلتْ طريقنا، وأشكر كلَّ من ساهم في سطرٍ من سطور نجاح قصَّتنا.
يجب أن نؤمن بقضاء الله، ويجب ألَّا نستسلم لليأس والحزن عند أول امتحان ربَّاني، فالله يمتحن صبرنا وإيماننا به، فإن صبرنا وشكرنا عوَّضنا بكلِّ خير، وفتح لنا أبواب رحمته.
شارك في الاجابة على السؤال
يمكنك الآن ارسال إجابة علي سؤال
كيف تود أن يظهر اسمك على الاجابة ؟
-
- 1
- اعجبني
- .
- اضف رد
- .
- عرض الردود
- .
- 20-05-2018
شارك في الاجابة على السؤال
يمكنك الآن ارسال إجابة علي سؤال
أضف إجابتك على السؤال هناكيف تود أن يظهر اسمك على الاجابة ؟
احدث الوصفات
فيديوهات ذات صلة
مقالات ذات صلة
اختبارات ذات صلة
أسئلة ذات صلة
مقالات ذات صلة
احدث مقالات قصص النجاح
احدث الوصفات
احدث اسئلة قصص النجاح
اسئلة من بلدك
احجز استشارة اونلاين