أسباب وأعراض الصّرع عند الشباب والبالغين (Epilepsy)
يُعرف الاختلاج (Seizure) طبياً بزيادة التفريغات الكهربائيّة التي تطلقها الخلايا العصبيّة الدماغية فيما بينها والظاهرة عيانياً على هيئة تقلصات عضليّة مفاجئة ومتكررة قد تقتصر على جزء معيّن من الجسم (إصبع أو يد مثلاً) أو قد تشمل كامل عضلات الجسم، وإن تكرّرت هذه المظاهر السريريّة لدى الفرد لمرتين أو أكثر فإننا أمام حالة صرع (Epilepsy) تستدعي معها التقصي والبحث الشامل لكشف السبب المسؤول عنها.
تشير الجمعيّة الوطنيّة للصّرع التابعة للمملكة المتحدة (National Society of Epilepsy) إلى أن تعداد الأفراد المصابين بالصّرع يبلغ حوالي 60 مليون فرداً حول العالم.
تكرار نوبات الاختلاج تنبه عن وجود حالة صرع تحتاج العلاج
قد تطلق الخلايا العصبيّة الدماغيّة تفريغات كهربائيّة زائدة وذلك نتيجة اختلال التوازن الطبيعيّ بين حالة التنبيه والتثبيط الخلويّ العصبيّ لأسباب معيّنة، كما أن زيادة المواد الكيميائيّة المنشطة ضمن المسافات المشبكيّة أو نقصان المواد المثبطة للتنبيه العصبيّ (أدوية تثبط الغابا مثلاً). تحت تأثير هذه تفريغات الكهربائيّة الزائدة، يتظاهر لدى المريض نوبة اختلاجيّة تتقلص فيها كامل عضلات جسمه أو بؤرة (جزء) محددة منه، كما يمكن أن يشكو المريض من أعراض أخرى تتناسب مع المنطقة القشريّة الدماغيّة التي انطلقت التنبيهات الكهربائيّة الزائدة منها، نذكر مثالاً لتوضيح ما ذكرناه أكثر: تتكفّل المنطقة الخلفيّة من القشر الدماغي (والتي نسميها طبياً القشر القفوي)؛ بتفسير التنبيهات البصرية الواردة من العينين معاً، بذلك يتمكن الفرد من رؤية الأشياء من حوله بشكل طبيعيّ. إن زيادة معدل انطلاق التفريغات الكهربائيّة من الخلايا العصبيّة المكوّنة لمنطقة القشر القفوي ستتسبب بمظاهر بصريّة غير مألوفة ومزعجة للفرد، كأن يرى وميضاً أمام عينيه أو بقع لونية متعددة في الفراغ.
حالات الصرع عديدة والأسباب واحدة
نشير إلى أن تكرار النوبة الاختلاجيّة لمرتين أو أكثر لدى الفرد يجعلنا أمام حالة صرع تتطلب التحريّ عن أسبابها المتخفيّة وعلاجها إن أمكن. (إذ كيفما تظاهر الصرع عند المريض فالأسباب واحدة؛ بمعنى آخر الصرع له أشكال سريرية كثيرة، لكن كل هذه الأشكال مهما كانت ستنتج تحت تأثير سبب من هذه الأسباب التي سنأتي على ذكرها في فقرة لاحقة من المقال. طبعاً يختلف شكل النوبة من مريض لآخر حسب التفريغات الزائدة في أي جزء من المخ حدثت، ولا نستطيع أن نتنبأ مسبقاً ونتوقع شكل النوبة التي ستصيب المريض، حيث تختلف الحالة لدى كل مريض عن غيره من المرضى كما قلنا.. فمثلاً أن المريض (أ) لديه صرع، قد تكون لديه زيادة تفريغات كهربائية في القسم المسؤول عن السمع؛ فيسمع طنين بأذنيه أو أصوات عجيبة. المريض (ب) قد تنفض قدمه اليمنى أو اليسرى، أو قد ينتفض كامل جسده ويقع أرضاً مع خروج زبد من فمه، وقد تصيبه نفس حالة الصرع عند المريض (أ)، وهناك الكثير من الأشكال السريرية للصرع).
تصنيف الصّرع سريرياً
تختلف التظاهرات (الأعراض)السريريّة التي تحدث في سياق الصّرع تبعاً للمنطقة الدماغيّة التي انطلقت منها التفريغ الكهربائيّة الزائدة، كما أن الصّرع يصنف سريرياً إلى الصّرع الجزئيّ أو البؤريّ (Partial Epilepsy) إن اقتصر على منطقة محدّدة من القشر المخيّ دون انتشاره إلى نصفي الكرتين المخيّتين، بينما يسمّى الصّرع معمّماً (Generalized) إذا انطلقت التفريغ الكهربائيّة من البنى العميقة في الدماغ وانتشرت في نصفي الكرتين المخيتين وبالتالي في كامل القشر المخيّ، يُشار إلى أن نمطي الصرع يختلفان فيما بينهما بالمظاهر السريريّة التي سنتطرق لها بالتفصيل في الفقرات اللاحقة.
ما هي الأسباب المسؤولة عن حدوث الصّرع؟
قد يبقى الصّرع مجهول الأسباب بنسبة من 50 إلى 55% من الحالات، بينما تنجم الحالات الأخرى منه عن أسباب متنوّعة نذكرها وفق التالي:
الأسباب الوراثيّة، تتسبب بزيادة التفريغات الكهربائيّة، فمن الطبيعيّ جداً أن يفكر الطبيب بدور العامل الوراثيّ لحدوث نوبة الصرع عند مريضه إذا ما تبيّن له حدوث قصة مرضيّة مشابهة للصرع عند أحد أفراد عائلة المريض.
- إنتانات الجملة العصبيّة المركزّية، كالتهاب الدماغ أو السحايا أو كليهما بعوامل ممرضة جرثوميّة أو فيروسيّة أو طفيليّة.
- ارتفاع الحرارة عند الأطفال، فمع وجود الاستعداد الوراثيّ يمكن لبعض الأطفال أن تحدث لديهم نوبات اختلاجيّة معمّمة (تعرف طبيًاً بالاختلاجات الحروريّة) على إثر ارتفاع الحرارة الموجود لديهم. لا تهدد هذه الحالة عموماً بتكرار النوبات الاختلاجيّة أثناء مراحل نموّ الطفل، إنما في حالات قليلة يمكن أن تتأذى بنى دماغيّة معيّنة مسبّبة صرعاً جزئياً معقّداً.
- الاختلاجات التالية لضربات على الرأس (الرضوض).
- اضطرابات استقلابيّة وشارديّة في الدمّ، أيضية استقلابية مثل: نقص سكر الدم، أو اضطرابات في شوارد الدم مثل: المغنزيوم أو الكلس أو الصوديوم.
- قد تظهر الاختلاجات أحياناً في سياق بعض الاضطرابات التطوريّة عند الأطفال، كالتوحّد مثلاً (Autism).
- انقطاع التروية الدموية عن بعض المناطق في قشرة المخّ في سياق السكتة الدماغية.
يبقى تشخيص الصّرع سريرياً بشكل أساسيّ معتمدين فيه على القصة المرضية المفصلة التي يأخذها الطبيب من المريض ومرافقيه الذين شهدوا نوبة الاختلاج التي تعرّض لها، ليس هذا فحسب، بل يمكن لتخطيط فعالية الدماغ الكهربائية (EEG) أن يفيد في وضع التشخيص أثناء حدوث النوبة، خصوصاً أن أغلب حالات الصرع لا تبدي أي تغيرات ملحوظة في التخطيط في الفترة الفاصلة بين النوبات. ويفضّل أحياناً أن نخطط الفعالية الدماغية لمريض الصرع بعد ليلة طويلة سهر فيها، لاسيّما أن تغيرات التخطيط الدماغي عن الشكل الطبيعي له ستظهر بشكل واضح مع افتقار المريض للراحة والنوم.
من جهة أخرى يفيد تصوير الدماغ الطبقي المحوسب (CT Scan) أو المرنان المغناطيسيّ (MRI) في الكشف عن التبدلات البنيوية الدماغية التي قد تحدث في سياق الصّرع (تصلّب حصين البحر: هو جزء دماغيّ مميز جداً كونه تختصّ خلاياه العصبيّة بأمور الذاكرة وخزن المعلومات؛ الموجود في الفص الصدغي على إثر نوبات متكررة من الصرع الجزئيّ المعقّد).
تعمل الأدوية المضادة للاختلاج (Anti – Convulsant Medications) على تثبيط انتشار التنبيه الكهربائيّ في كامل أرجاء الخلية العصبيّة التاليّة ضمن المشبك العصبيّ الواحد، وهي تقسم إلى أدوية تقليديّة كالفينيتوئين (Phenytoin) أو الفينوباربيتال (Phenobarbital) أو كاربامازيبين (Carbamazepine)، وإلى أدوية حديثة أهمها اللاموتريجين (Lamotrigine) الذي يعتبر دواءً آمناً لاستخدامه من قبل الحوامل المصابات بالصّرع.
علاج الصرع والمدة الزمنية التي يتطلبها المريض للشفاء التام
إن حدوث نوبة اختلاجيّة وحيدة عند فرد ما لا تتطلب أبداً وضعه على خطة علاجيّة خاصّة بمرضى الصّرع، بل إن تكرار حدوث هذه النوبات لمرتين أو أكثر؛ يستدعي البحث والتقصي الشامل عن أسباب حدوثها مع وضع المريض على كورس علاجيّ دوائيّ خاصّ بالصّرع، حيث يعتمد الأطباء عادة على وصف دواء واحد يؤخذ فموياً وينتمي إلى الجيل الأول التقليديّ من الأدوية الخاصة بمضادات الاختلاج (Anti-Convulsant Medications)، كالفينيتوئين أو الكاربامازيبين أو الفينوباربيتال، وذلك بما يتناسب مع عمر المريض ونمط الصرع الذي يشكو منه، وتتم زيادة الجرعة تدريجياً ريثما يصل الدواء إلى التراكيز المصليّة الفعالة منه.
المدة الزمنية التي يحتاجها علاج الصرع دوائياً
تجدر الإشارة إلى أن علاج الصرع سيستمر مدى الحياة بشكل مبدئيّ، لكن يمكن للطبيب أن يسحب الدواء تدريجياً لمريضه إلى أن يصل لإيقافه التام شريطة تحقق نقطتين هامتين:
- أولهما أن تختفي النوبات تماماً على مدار سنتين من التزام المريض بالخطة العلاجية الموضوعة بدقة من قبل الطبيب وتحسن حالته التامة.
- وثانيهما الحفاظ على مخطط طبيعيّ للفعالية الكهربائية للدماغ على مدار سنتين أيضاً من العلاج.
تمتلك الأدوية المضادة للاختلاج آثاراً جانبيّة سيئة قد تزعج المريض كالدوار والدوخة والأذيات الكبدية والسمنة واضطرابات المشي وغيرها، وتصنف ضمن الأدوية الماسخة التي تؤذي الجنين عند الحوامل وتتسبب بحدوث تشوهات لديه، باستثناء اللاموتريجين (Lamotrigine) الذي ينتمي لمضادات الاختلاج الحديثة ويعتبر أكثر المضادات أماناً عند السيدات المصابات بالصرع ويرغبن بالإنجاب.
نشير إلى أن بعض الحالات الشديدة من الصّرع قد تتطلب تدخلاً جراحياً تُستأصل فيها البؤرة الدماغية التي تنطلق منها الفعالية الكهربائيّة الزائدة والشاذة إن كان الصرع جزئياً، أو قد تجرى عملية اقتطاع الثلثين الأماميين للجسم الثفنيّ؛ لمنع انتشار التنبيهات الكهربائيّة وتعميمها في كامل نصفي الكرتين المخيّتين.
مخاطر علاج الصرع جراحياً
يمكن أن تخلّف هذه العملية الجراحية آثاراً جانبيّة مؤقتة أو دائمة بعد إجرائها، كشلل جزء معين من الجسم أو قد يفقد المريض قدرته على الرؤية بشكل تامّ، أو قد يحدث إنتان دماغيّ مثلاً أو اضطرابات في كلام المريض، فلا ينبغي أن ننسى أن الجراح سيتعامل مع أهم وأدق جزء في جسم الإنسان ككلّ، وكل حركة أو خطوة يقوم بها الجراح ينبغي أن تكون دقيقة جداً نظراً لأننا نتعامل هنا مع خلايا حساسة جداً ومهمّة، ولا يمكن تعويضها إطلاقاً في حال إصابتها بضرر وتموّتها. كما أشرنا؛ قد يكون العلاج الجراحيّ حلاً مفيداً لمرضى الحالات الشديدة للصرع، ولابدّ أن يتحدث المريض مع طبيبه المختص حول احتمالات نجاح وفشل إجراء العمل الجراحيّ، وتوضيح المخاطر التي يحملها التدخل الجراحي على الدماغ قبل اعتماد إجرائه.
لمحة سريعة عن أهمية الخلايا العصبيّة الدماغيّة
يحتوي دماغ الإنسان أعداداً هائلةً جداً من الخلايا العصبيّة التي تشكّل فيما بينها شبكات اتصال واسعة وتهتمّ بمراقبة عمل كافة الأعضاء والأجهزة داخل جسم الإنسان، إضافة إلى استقبال الإشارات والتنبيهات من الوسط الخارجيّ بمختلف أنواعها ومعالجتها بغية إرسال معلومات خاصّة تفضي بكيفية التعامل المناسب معها، كما يمتلك دماغ الإنسان الحاليّ؛ صفات خاصة تميّزه عن السلالات التي سبقته، باعتباره نموذجاً أكثر تطوراً يتمتع بقدرة فائقة على المحاكمة العقليّة وفهم تغيرات البيئة المحيطة بشكل جيّد والتعامل معها، إضافة إلى تطور القدرة على الكلام بشكل أفضل وابتكار اللغة المحكيّة للتعبير من خلالها إلى جانب قدرته على الكتابة وإنجاز الحساب واستذكار الصّور والمعلومات وغيرها من الوظائف الدماغيّة المتنوّعة.
تواصل خلايا الدماغ والنواقل العصبيّة الكيميائيّة (Neurotransmitters)
لإتمام المهام المذكورة آنفاً بشكل ممتاز تتواصل الخلايا العصبيّة كي تنقل المعلومات فيما بينه عبر المشابك العصبيّة الكيميائيّة (Chemical Synapses)، (يتألف المشبك الواحد من نهاية الخلية العصبية الأولى مع مقدّمة (سطح) الخلية العصبية التالية لها، يفصل بين هذين الجزأين مسافة مهمة جداً نسميها الشقّ المشبكي)؛ لقد أطلقنا على هذا المشبك صفة الكيميائيّ نظراً لكون الإشارة الكهربائية التي تسير على طول أجزاء الخلية العصبيّة الأولى تحتاج إلى مادة كيميائيّة خاصّة (نواقل عصبيّة كيميائيّة Neurotransmitters) تُفرَز من نهاية الخلية العصبية (أو كما يسمى طبياً بالغشاء قبل المشبك)؛ ضمن الشق المشبكيّ كي ترتبط فيما بعد مع المستقبلات الخاصة بها على سطح الخليّة العصبيّة التاليّة، مما يسمح للإشارة العصبيّة أن تنتشر على طولها فتنتقل للخلية العصبيّة التي تليها وهكذا.
تجدر الإشارة إلى أنّ هنالك نواقل عصبية كيميائية متنوعة منها ما يختصّ في تنشيط حدوث التفريغ الكهربائيّ من الخلايا العصبيّة ومنها ما يقوم بتثبيط هذا التفريغ، فنجد مادة الأسبارت من النواقل العصبيّة التي تنشط هذا التفريغ الكهربائيّ، بينما تعدل (تتراجع) الخلية العصبيّة الدماغيّة عن الإطلاق الكهربائيّ بوجود مادة الغابا (GABA) ضمن الشق المشبكيّ باعتبارها ناقلاً عصبياً كيميائياً مثبطاً.
إذاً.. كيف يتمّ تنظيم التفريغات الكهربائيّة التي تنشأ من الخلايا العصبيّة؟
نستطيع القول بعد توضيح مفهوم التواصل بين الخلايا العصبيّة (عبر المشابك) أن التفريغات الكهربائيّة فيما بينها ينظمها الإفراز المتوازن للنواقل العصبيّة الكيميائيّة المنشطة والمثبطة، مما يخلق حالة من التوازن بين الدارات العصبيّة المفرغة للتنبيه والمتوقفة عنه لفترة زمنية قصيرة للغاية (أجزاء من الثانية).
الصّرع الجزئيّ أو البؤريّ (Partial Epilepsy)
سُمّي هذا الصّرع جزئياً نظراً لكون التفريغات الكهربائيّة الزائدة تقتصر على منطقة محدّدة فقط من القشر الدماغيّ دون أن تنتشر لمنطقة أخرى ضمنه، أي أنها تبقى فقط ضمن هذه البؤرة من الدماغ دون أن تتعمم في كامل أجزاء قشره، والصرع الجزئي بسيط وآخر معقد:
الصّرع الجزئيّ البسيط (Simple Partial Epilepsy) وأعراضه السريريّة
كذلك الأمر فإن الصرع البؤريّ يقسم إلى الصرع البؤريّ البسيط (Simple Partial Epilepsy) الذي يحافظ فيه الشّخص على وعيه التّام والكامل أثناء النوبة، كما يبدي فيه تظاهرات سريريّة (أعراض) تتناسب مع المنطقة القشريّة التي انطلقت منها التفريغات الكهربائيّة الزائدة، فإن انطلقت مثلاً من المنطقة لقشريّة المسؤولة عن استقبال التنبيهات البصريّة وترجمتها (الباحة القفويّة) سيتراءى للفرد ومضات أو شرر كهربائيّ (Flashes) أو بقع لونيّة مختلفة أو تغيرات في أحجام الأشكال الموجودة أمامه (تصغر الأشكال أو تكبر بالحجم).
- شكل سريريّ ثانٍ للصرع الجزئي البسيط قد تنتشر التنبيهات الكهربائيّة المفرطة ضمن القشرة المخيّة المسؤولة عن الإحساسات (الباحة الحسيّة) فيعاني المريض من خدر وتنميل في يده أو ساقه اليمنى أو النصف الأيمن من وجهه مثلاً إن صدرت التفريغات الكهربائيّة الزائدة في الباحة الحسيّة للقشر المخي الأيمن، أو قد يشمّ رائحة غريبة ونتنة غير موجودة أساساً (الباحة الشميّة)، أو قد يشعر بطعم غريب في فمه (أعراض ذوقيّة).
- شكل سريريّ ثالث للصرع الجزئي البسيط من جهة أخرى قد يشكو المريض من تقلّصات عضليّة تستمر لثواني في عضلات وجهه أو العضلات المتحكّمة بحركة إصبع مثلاً إن انتشرت التنبيهات الكهربائيّة الزائدة في المنطقة القشريّة المسؤولة عن الحركة (الباحة المحرّكة)، كما يمكن لهذه التفريغات أن تنقل بشكل نشبهه بسير العسكر التقدّميّ (March) إن بدأت في تقليص العضلات المسؤولة عن تحريك جزء معيّن وتابعت سيرها إلى العضو التالي على خريطة توزّع الأعضاء في الباحة المحرّكة، بمعنى أننا سنلاحظ على المريض تقلّصات عضلية في الإصبع وتليه كامل الكفّ ثم إلى الساعد (كونها متتالية على الخريطة) أو قد تتعمّم لتشمل كامل الطرف العلويّ (سير تقدّمي متتالٍ تنتقل فيه التفريغات الكهربائيّة الشاذة من البؤرة الخاصّة بعضو إلى ما يليه على خريطة توزّع الأعضاء على القشر الدماغيّ المحرّك وهكذا).
- شكل سريريّ رابع للصرع الجزئي البسيط يمكن للمريض أن يشكو أيضاً من أعراض نفسيّة نادرة نلاحظ فيها اضطرابات في الوظائف الدماغيّة العليا، كاضطراب الذاكرة أو القلق أو الخوف أو الهلوسات السمعيّة كسماع نغمات معيّنة أو صفير أو صوت ما، ولعلّ أكثر الأعراض السريرية المميّزة للصرع الجزئيّ البسيط شيوعاً يتمثّل؛ بحالة الانزعاج وعدم الارتياح في أعلى البطن لتنتشر بشكل صاعد إلى الرأس، ليشكو المرء بعد هذا الانزعاج البطنيّ من احمرار وتوهّج في الوجه مع تعرّق غزير وانتصاب لأشعار جسمه واتساع حدقتي عينيه.
الصرع الجزئيّ المعقّد (Complex Partial Epilepsy)
يرجع سبب كون هذا الصرع الجزئيّ معقداً إلى وجود حالة من الاضطراب في وعي المريض، لنجده مثلاً خلال النوبة محركاً لكرتي عينيه دون أن يدرك ما يحدث معه خلال الثواني القليلة التي تحدث فيها أعراض هذا الصّرع، كما أنه لا يستطيع الاستجابة لأوامر وتنبيهات من حوله وكأنه معزول تماماً عنهم.
أعراض الصرع الجزئي المعقد أثناء النوبة
قد يشكو المريض بداية من نوبة صرع جزئيّ بسيط يحافظ فيها على وعيه ثم يضطرب فيها وننتقل إلى حالة صرع معقّد، أو قد يعاني من البداية من اضطرابٍ وتدنٍّ في مستوى الوعي لديه يليه تكرار مميّز لحركات لا إراديّة وتلقائيّة (Automatism) خلال النوبة، كأن يلعق شفتيه أو يقوم بالمضغ والبلع بشكل متكرر، وقد نراه يقوم بحركات بسيطة بيديه كفرقعة أصابعه أو فرك كفّيه، كما يمكنه أن ينجز حركات أعقد من سابقتها كأن يمشي أو يركض في الأنحاء بشكل تكراريّ، وفي حالات قليلة يمكنه أن يتابع إنجاز ما كان مقدماً عليه قبيل بدء النوبة، كتدوير محرّك السيارة أو تقطيع الخبز وغير ذلك، كما أن محاولة إيقاف المريض عما يقوم به تجعل منه فرداً عدوانياً وهجومياً.
حالة المريض بعد انتهاء نوبة الصرع الجزئيّ المعقد
يعاني المريض بعد انتهاء النّوبة من تشوّش ذهنيّ يستمر لثوان قليلة أو دقائق ونادراً ما تستمر الحالة لساعات طويلة، في حالات قليلة (نسبة 13% فقط) قد يشكو المريض من ضعف موضعيّ أو شلل في المنطقة التي حدثت فيها التظاهرات (الأعراض) السريرية خلال النوبة، تعرف طبياً بشلل تود (Todd Palsy) وهي أيضاً تستمرّ من دقائق قليلة إلى ساعات وليس أكثر.
الصّرع المعمّم (Generalized Epilepsy)
سُميّ هذا الصّرع معمّماً باعتبار التنبيهات الكهربائيّة الزائدة تنشأ من بؤرة دماغيّة لتنتشر بعدها عبر الجسم الثّفنيّ (بنية دماغيّة تربط بين نصفي الكرتين المخيّتين) إلى القشر المخيّ الأيمن والأيسر، كما يحدث فيه أن يفقد المريض وعيه تماماً بشكل أساسيّ.
يمكن لنوبة الصرع أن تبدأ جزئيّة (بسيطة ثم معقدة ثم معمّمة) أو (معقدة ثم معمّمة) أو قد تنتشر التفريغات الكهربائية الشاذة في كامل القشر المخيّ منذ البداية.
تختلف الأشكال التي يتظاهر فيها هذا الصّرع من مريض لآخر، إلا أننا سنقوم بتوضيح هذه الأنماط الخاصة بالصرع المعمّم وفق التالي:
نوبة اختلاجيّة مقوّية رمعيّة (Tonic – Clonic) أو الصّرع الكبير (Grand Mal)
لعلّها أكثر أشكال الصّرع المعمّم شيوعاً وأكثرها مشاهدة، تستمّر بين 10 ثوان إلى 30 ثانية عادة، ويحدث فيها بدايةً غياب الوعي عند المريض وسقوطه أرضاً؛ تحت تأثير فقد مقويته العضلية، أي فقد قدرة عضلات جسمه على القيام بالتقلصات البسيطة جداً والطبيعية كي يحافظ الجسم على وضعية مستقرة ومتزنة بشكل مستمر خلال اليوم. (بمعنى آخر وأبسط؛ أنت جالس ولا تستخدم كل عضلات قدميك، فهل تظن أن العضلات متمددة ومرتخية تماماً؟.. لا.. حيث أن أياً كانت العضلة التي لا نستخدمها بجسمنا فإنها لن تسترخي بشكل تامّ، صحيح أنها في حالة راحة؛ لكنها تقوم بتقلص خفيف جداً حتى يبقي الجسم متوازناً ككل، وإلا سنقع بعد أن نقف نسقط أرضا)،بالعودة إلى المريض أثناء نوبة الصرع المعمم؛ يعد سقوطه يُصاب بتشنّج شديد لكامل عضلات جسمه (تيبّس شديد)، يتقوّس ظهر المريض وتنعطف ذراعاه لمدة قصيرة باتجاه صدره، كما ينفرد طرفاه السفليان بشكل ملحوظ، تنحرف عيناه باتجاه الأعلى، يصدر أصواتاً ناتجة عن تقلص شديد في عضلات حنجرته، وبشكل مؤكد تتأثر عضلات التنفس لديه فيصبح مزرق اللون.
الطور الرمعي (الانتفاض) خلال هذه النوبة من الصرع الكبير
ينتقل بعدها المريض خلال النوبة إلى الشكل الرّمعي (النفضيّ)؛ سنلاحظ (انتفاض جسم المريض إي أنه دخل بالطور الرمعي من النوبة، طبعاً لن نستطيع الفصل بين الطور المقوي والرمعي ومتى يبدأ كل واحد منهما، ببساطة لأنهما يحدثان بالتزامن مباشرة ومدة كل واحد منهما ثواني معدودة، هذا فضلا عن هول الصدمة لدى المحيطين بالمريض؛ فهو يختلج ويزرق وتنتهي النوبة والمحيطين به قد يضلون في حالة الصدمة من النوبة الاختلاجيّة). إذاً خلال الطور الرمعي يحدث تقلص واسترخاء متناوب لعضلات جسم المريض مما يجعلها تنفض بقوّة، إلى جانب خروج الزبد الرغويّ من فمه وعضّه للسانه، وقد يتبوّل المريض ويتغوط لا إرادياً نتيجة انفلات المصرات البولية والشرجية لديه (وهي عبارة عن حلقات عضلية يؤدي انفتاحها إلى خروج الفضلات خارج الجسم)ي سياق هذا الطّور الرّمعيّ الذي يستمرّ 30 إلى 60 ثانية وربما يصل إلى 90 ثانية.
بعد نوبة الصرع الكبير
تهدأ حركات المريض بعد الاختلاجات المقويّة الرمعية، التي حدثت له في الثواني القليلة السابقة إلا أنه يبقى فاقداً للوعي مع تحسّن ملحوظ في لونه وحركات التنفس لديه.
يستيقظ المريض بعد النوبة الاختلاجيّة دون أن يعي أو يتذكر ما حصل معه، ويشعر بتعب وإنهاك شديدين وتشوشّ ذهني ورغبة شديدة في النوم.
ماذا نقصد بالصرع الانعكاسيّ؟
في حالات خاصّة وقليلة يمكن للتنبيهات الضوئيّة أن تثير فعالية الخلايا العصبيّة الدماغية وتدفعها لمزيد من التفريغات الكهربائية الزائدة والشاذة، كالضوء الساطع من شاشات التلفاز والحواسيب أو حينما يقود السائق على درب مشجّر في طرفيه وتخترقه أشعة الشمس فيما بين الأشجار، كما أن سماع نغمة موسيقية ما أو صوت شخص معيّن قد يحرض هذه النوبة الاختلاجيّة التي نسميها الصّرع الانعكاسيّ (Reflex Epilepsy).
صرع الغياب (Absence Epilepsy) أو الصرع الصغير (Petit Mal)
يحدث هذا الشكل الصّرعيّ المعمّم عند الأطفال الصغار، وفيه يُلاحظ على الطفل المصاب انقطاع مفاجئ في وعيه، يتوقف عن إنجاز المهمّة التي كان يقوم بها قبيل بدء النوبة، يحدق بعيداً في الفراغ، وقد نلاحظ عليه أحياناً طرف عينيه بسرعة خلال النوبة، أو قد يبقى محدقاً فقط لثوان قليلة ريثما يستعيد وعيه.
تمثّل الصورة السريريّة السابقة شكلاً نموذجياً لصرع الغياب عند الأطفال، وفي حالات قليلة لا نموذجيّة يمكن للطفل أن يفقد مقويته العضلية ويسقط أرضاً مع شروده التام، أو قد يقوم بحركات بسيطة جداً بيديه.
- نوبة اختلاجيّة مقوّية فقط (Tonic) تتشنّج فيها عضلات جسم المريض دون أن يدخل في المرحلة التي ينفض فيها جسمه بشكل كامل أي في الطور الرّمعي النفضيّ أبداً، كما نلاحظ فيه غياب وعي المريض بشكل تامّ خلال النوبة.
- نوبة فقدان المقويّة (Atonic) يفقد فيها المريض مقوية عضلات جزء معيّن من جسمه؛ (كما ذكرنا أعلاه فإن المقوية العضلية عبارة عن حالة التوازن بين التقلص والاسترخاء العضلي) (العنق مثلاً) فنجده يحني رأسه بشكل مفاجئ، أو قد تشمل كامل عضلات الجسم ليسقط المريض أرضاً وذلك لفترة زمنية قليلة (عدة ثوانٍ) يتعرّض خلالها وعيه لتشوّش بسيط دون أن يفقده تماماً (لا يغيب المريض عن الوعي)، وعادة لا يشكو المريض من تشوش ذهنيّ بعد انتهاء النوبة.
- نوبة رمعيّة (نفضيّة) عضليّة (Myoclonic) تحدث عادة في الصباح الباكر بعد الاستيقاظ لدى المراهقين بعمر 12- 18 سنة، يلاحظ فيها المريض تقلص مفاجئ يستمر لثانية واحدة أو أكثر لعضلات جزء محدد أو كامل جسمه، وعلينا أن نميّزها بالطبع عن الحركات النفضيّة الطبيعيّة التي تظهر لدى 30% من الناس الطبيعيّين مع بداية دخولهم في طور النوم، فنلاحظ تقلصاً نفضياً مفاجئاً في الساق أو الذراع، وهي ظاهرة طبيعيّة تماماً على عكس النوبة الرمعية العضليّة عند المراهقين.
في الختام... مهما كانت درجة الصرع والإصابة به؛ يبقى لمتابعة العلاج وإرشادات الطبيب الأهمية الأكبر، ورغم مخاطر العمل الجراحي في علاج الصرع الشديد فإن الطب يتطور بسرعة؛ علّ المستقبل يحمل الأمل في العلاج الآمن والكامل لهذا المرض.