فوائد الوحدة والعزلة الاجتماعية
"إنك لا تخاف إلا حين لا تكون منسجماً مع نفسك، والناس خائفون لأنه لم يسبق لهم أن كانوا مسيطرين على أنفسهم" هذا ما قاله الكاتب العالمي هيرمان هسه، كما قال بما معناه: "طوبى لمن عثر على العزلة الاختيارية؛ ليست تلك التي يتحدث عنها الأدب أو السينما، بل العزلة المختارة التي تحمل في العمق إكسيرَ فهم الوجود.."، ما مدى تأثير العزلة الاجتماعية على حياتنا؟ وكيف تعمل الوحدة على تغير الدماغ وهل لذلك فوائد؟!
الفرق الرئيسي بين العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة
هناك تمييز مهم يجب أن يتم بين العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة، ففي حين أن بعض الناس يحبون أن يكونوا مع الآخرين في جميع الأوقات، فإن البعض الآخر يسعدهم قضاء بعض الوقت في عزلة تماماً، ربما بهدف القراءة أو ممارسة هواية أو التأمل بهدوء مع أفكارهم.. هم وحدهم لكنهم لا يشعرون بالوحدة.
وفي حين أن الوحدة يمكن أن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعزلة الاجتماعية في أذهان الكثيرين؛ أعتقد أن هناك فرقاً رئيسياً، حيث تدور العزلة الاجتماعية حول افتقارها للتفاعل مع الآخرين ولا شك في أن البشر كمخلوقات اجتماعية؛ يحتاجون إلى هذا النوع من الاتصال، ويمكن استيفاء هذا الشرط من خلال التحدث مع الآخرين، إما شخصياً أو افتراضياً عبر الإنترنت أو عبر الهاتف، يمكن استرضاء هذ الحاجة بمجرد التفاعل مع الناس في العالم من حولنا، لأن الشعور بالوحدة يرتبط بإحساس الخسارة، بالتالي أن يؤدي إلى الاكتئاب ومتابعة أقل الفرص للتفاعلات الاجتماعية، مما يزيد من عزلة الوحدة لأنه يترافق مع إحساس بأن الهدف في الحياة يتضاءل.
اختلاف الوحدة والعزلة الاجتماعية ومعرفة الفرق بينهما
غالبا ما يتم التغاضي عن التمييز بين هذين المفهومين من قبل البعض وحتى الباحثين، مما يجعل من الصعب فهم ما يمكن أن يساعد الناس على الحد من شعورهم بالوحدة، فالشعور بالوحدة هو شعور ذاتي بالفجوة بين مستويات الشخص المرغوبة للاتصال الاجتماعي والمستوى الفعلي للاتصال الاجتماعي، كما يشير هذا الشعور إلى الجودة المتصورة لعلاقات شخص ما؛ لا يرغب الشعور بالوحدة أبداً، يمكن أن يستغرق تقليل هذه المشاعر وقتاً طويلاً، والعزلة الاجتماعية هي مقياس موضوعي لعدد الاتصالات التي يمتلكها الناس، ويتعلق الأمر بكمية وليس نوعية العلاقات، قد يختار الناس أن يكون لديهم عدد قليل من العلاقات، عندما يشعرون بالعزلة الاجتماعية، ويمكن التغلب على ذلك بسرعة نسبية عن طريق زيادة عدد الأشخاص الذين تتواصل معهم.
هل ترتبط الوحدة بالعزلة الاجتماعية؟
الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية مختلفان ولكنهما متصلين ببعضهما البعض، حيث يمكن أن تؤدي العزلة الاجتماعية إلى الوحدة.. والوحدة يمكن أن تؤدي إلى العزلة الاجتماعية، كلاهما قد يحدث أيضا في نفس الوقت، ويمكن للناس تجربة مستويات مختلفة من العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة مدى حياتهم، والانتقال داخل وخارج هذه المشاعر مع تغير ظروفهم الشخصية، كذلك تشترك الوحدة والعزلة الاجتماعية في العديد من العوامل التي ترتبط بزيادة فرص الأشخاص، الذين يعانون من كل منهما؛ لتدهور الحالة الصحية، والإعاقات الحسية أو الحركية.
ووجدت دراسة "أن الوحدة ترتبط بشكل على نطاق واسع بالعزلة الاجتماعية، أي عدم وجود علاقات مع أشخاص آخرين، وتُعرَّف الوحدة بأنها النتيجة السلبية للتقييم بين (نوعية وجودة) العلاقات القائمة ومعايير العلاقة بين الأشخاص، فقد توسعت مجالات البحث مثل: علم النفس والأنثروبولوجيا، لفهم الآليات وراء بداية واستمرار الشعور بالوحدة، إلى جانب المتغيرات الأساسية مثل: العمر والجنس والصحة، وتمت معالجة خصائص الشبكة الاجتماعية للعلاقات وخصائصها الشخصية ومعايير العلاقة"، فوجدت هذه الدراسة أيضاً: "أن العزلة اجتماعياً في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية على مستوى المجتمع تحتاج مزيداً من الأبحاث، حيث ينبغي أن يتناول البحث المستقبلي الطرق التي تتأثر بها تقييمات الناس لشبكات علاقاتهم مع السياق الذي يجد فيه الأشخاص أنفسهم وحيدين".
لماذا تعد العزلة الاجتماعية سيئة على الصحة كلما تقدمت بالعمر؟
كشفت دراسة أجريت في عام 2012 بقسم طب الشيخوخة في جامعة كاليفورنيا الأمريكية، أن نسبة 43٪ من المشاركين في الدراسة البالغ عددهم 1604 شخصاً (عمرهم 60 عاماً فأكبر)؛ أفادوا بأنهم يشعرون بالوحدة على الأقل لبعض الوقت، ومن بين الأشخاص الذين شعروا بالوحدة كانوا أكثر عرضة بنسبة 25٪ تقريباً لتدهور أنشطة حياتهم اليومية، فكانوا "أكثر عرضة بنسبة 40٪ تقريباً لتطوير صعوبات في مهام الأطراف العلوية، وصعوبة في تسلق الأدراج"، وبشكل عام.. "ارتبطت الوحدة بزيادة مخاطر الوفاة بنسبة 23% تقريباً"، فالشعور بالوحدة بين كبار السن يرتبط بعواقب صحية سلبية إضافية مثل: زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب وارتفاع معدلات السكتة الدماغية وزيادة معدلات الخرف، لكن من المهم معرفة أن الآثار الصحية المترتبة على الوحدة؛ يمكن أن تمتد إلى الأشخاص الآخرين حول الشخص الوحيد، مما يؤثر على مستويات التوتر لدى مقدمي الرعاية والأقارب والأصدقاء أيضاً، وغالباً ما يشعر هؤلاء الناس بأنهم يجب أن يتحملوا العبء الثقيل المتمثل في محاولة سد هذه الفجوة في الوحدة بالنسبة للمسنين.
يشعر الجميع بالوحدة أو بالملل في بعض الأحيان، وهذه حقيقة طبيعية في الحياة، لكن الشعور بالوحدة والعزلة المزمنين.. لا يجب أن يكون حتمياً لكبار السن، في الواقع وعلى حد سواء يمكن الوقاية منها والشفاء منها، يجب علينا ببساطة البحث عن فرص لمساعدة كبار السن على الاستمرار في رعاية العلاقات القائمة وتكوين علاقات جديدة وفعالة.
فيما يلي بعض النصائح التي تقدمها الإدارة الأمريكية للشيخوخة، كي تقاوم الوحدة المضرّة:
- حدد موعداً للاتصال بصديق أو زيارة شخص ما.. كل يوم.
- خذ دروساً لتعلم شيء جديد، وفي نفس الوقت، وسّع دائرة أصدقائك.
- العودة إلى هواية قديمة قمت بتخصيصها والتواصل مع الآخرين الذين يشاركونك اهتمامك.
- تطوع لتعميق الإحساس بالهدف ومساعدة الآخرين.
- قم بزيارة مركز رعاية أيتام أو مركز كبار العمر في مجتمعك، واشترك في مجموعة واسعة من البرامج المخصصة لهم.
الآثار السيئة للوحدة والعزلة الاجتماعية
أظهرت نتائج دراسة عام 2015 أن العزلة الاجتماعية أدت إلى زيادة في الوفاة المبكرة بنسبة 50 %، كما ترتبط الوحدة والعزلة الاجتماعية بارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستويات الكوليسترول والاكتئاب، وإذا لم يكن ذلك سيئاً بما فيه الكفاية، فقد انخفضت القدرات المعرفية وازدادت مخاطر الإصابة بمرض الزهايمر.
على المدى القصير، يمكن أن لا يكون للعزلة والوحدة مؤذياً للصحة، لكن على المدى الطويل يصبح الضغط غير المنضبط مشكلة، وهناك أدلة على أن التوتر المزمن يرفع مستويات هرمون الكورتيزول في الدماغ، حيث يمكن أن يقلل من استجابة نظام المناعة للعدوى، حتى أنه قد يجعل الخلايا العصبية في الدماغ أقل نشاطاً، بل تؤدي إلى موت الخلايا، وهو ما يساهم في زيادة الالتهاب الذي يرتبط بأمراض القلب والشرايين والسكتة الدماغية وارتفاع ضغط الدم وربما يكون سببا للاكتئاب.
العثور على حل للتأثيرات السلبية للوحدة والعزلة الاجتماعية
إذن ما الذي يمكننا فعله حيال كل هذا؟ لا توجد أدوية حقيقية لعلاج الشعور بالوحدة، إلا إذا كان الشخص مصابًا بالاكتئاب أو لديه مستويات عالية من القلق، ويقترح الطبيب سانجاي غوبتا (Sanjay Gupta) أن المجتمع يجب أن يبدأ النظر إلى الوحدة على أنها مرض مزمن آخر، إذا كان الأمر كذلك فإن المرضى يحتاجون إلى استراتيجيات طويلة المدى لإدارة هذه المشكلة، وليس من المستغرب أن العلاج الموصى به حاليا يدور حول تأسيس العلاقات الاجتماعية، فبالنسبة لكبار السن يمكن التغلب على الوحدة من خلال:
- الانضمام إلى مجموعات الأقران؛ طريقة رائعة للانخراط في الأنشطة ومقابلة الناس.
- ماذا عن التطوع؟ نعم إنه مهم.. ومن المفاجئ كيف يمكن أن تكون الأشياء الصغيرة مفيدة جداً، حتى لو تطوعت في تنظيف حديقة الحي مثلاً.
- كما أن مكالمة هاتفية بسيطة مرة واحدة في اليوم مع الحفيد؛ يمكنك بالفعل التحدث إلى أطفالك وأحفادك الذين قد يكونون على الجانب الآخر من الكرة الأرضية ببساطة اليوم.
- وجدت الدراسات في مرافق رعاية كبار السن؛ أن الحيوانات الأليفة يمكن أن تقلل من الشعور بالوحدة.
- على المستوى الطبي.. سيقوم الطبيب الحكيم بجدولة وقت الأشخاص الذين يبدو وحيدين للقيام بزيارات دورية فقط للتحدث، وفي رأيي يمكن أن يمنع هذا المزيد من الاختبارات غير الضرورية والرعاية المكلفة.
- أخيراً حتى إذا كان لديك مجموعة ثرية من جهات التواصل الاجتماعي، فربما لا تعرف جارك الذي يمشي بمفرده في بعض الأحيان.. حاول التواصل معه.. قل مرحباً!
تغير العزلة الاجتماعية والوحدة الدماغ بطرق مختلفة!
إذا كنت بحاجة إلى قضاء الكثير من الوقت بمفردك، فقد تلاحظ أنك بدأت التفاعل والشعور بأنك مختلف، والسبب يكمن في علم الأعصاب وتغيرات تحدث للدماغ! إليك ما يحدث في دماغك عندما تقضي الكثير من الوقت بمفردك:
- تصبح أفضل في كشف التهديدات: وجدت دراسة أجريت عام 2015 أن الأشخاص الذين يقضون الكثير من الوقت وحدهم جيدون في اكتشاف التهديدات في بيئتهم ولديهم حساسية للإشارات المحتملة بأن هناك خطأ ما هو السبب؟.. إذا كنت بمفردك، يصبح عقلك أكثر يقظة لأن لا أحد يحميك، وربما لا تكون فكرة جيدة لمشاهدة الكثير من أفلام الرعب!.. وإلا لن تتوقف أبداً عن النظر خلف كتفك!
- تصبح أكثر عدوانية وخوفاً من الآخرين: (بالطبع هذا ليس تأثيراً إيجابياً) أظهرت دراسة أنه في حالة الأشخاص المعزولين اجتماعياً بشكل مزمن، قد يعني وجود كيمياء عصبية تجعلهم أكثر عدوانية (غضب وتهيج) بشكل عام، بل ربما تصبح أكثر خوفا من الآخرين، لذلك لا تتفاجأ إذا كانت العودة إلى الحياة الاجتماعية بعد بعض الوقت؛ يعني أنك ستشعر بالحزن وتكون أقل تسامح من المعتاد، إنها إعادة تنظيم الخلايا العصبية لديك.
- تأثير الوحدة على المرأة أشد وطأة: (الوحدة والعزلة هنا ليست مفيدة أيضاً) في دراسة أجريت عام 2016 وجدت أن أدمغة الأشخاص وردود أفعالهم؛ مختلفة تجاه العزلة الاجتماعية باختلاف الجنس! وكونكِ امرأة قد يعني استجابة أكثر حدة، حيث يبدأ دماغك بإنتاج هرمون يسمى الكورتيكوستيرون (corticosterone)، (وهو رد فعل لحالات الإجهاد الشديد بالفعل)،. لم يتأكد الباحثون بعد من هذه النتائج على البشر فالدراسة تمت على الفئران، لكن إذا بدا أنك تشعرين بمزيد من الضغط وأنتِ بمفردك أكثر من نظرائك الذكور؛ من المحتمل أن يكون ذلك بسبب مادة كيميائية عصبية.
- تغييرات تصيب الدماغ: وجدت دراسة أجريت في عام 2012 أن الفئران المعزولة لفترة طويلة لا تنتج كمية كبيرة من المايلين (Myelin)، (وهي جزء مهم من بنية الدماغ، تشكل "غمد" الحماية حول أعصابك، لكنك قد تعرفه على أنه "مادة بيضاء"، على عكس "المادة الرمادية" في الدماغ، التي تضم الخلايا العصبية نفسها)، وفقاً للدراسة، فإن القليل من العزلة الاجتماعية أدت إلى انخفاض مستويات الميلين، لكن لم ينتج عنها أي سلوك مختلف، في حين أن قضاء الكثير من العزلة يعني تغير قدرة إشارة الدماغ، ربما هذا هو السبب في كون التواجد بمفردنا لفترات طويلة يغير فعلياً سلوكنا، لأن أدمغتنا تتواصل بطرق مختلفة وربما أقل فعالية.
- تجد السعادة في أشياء مختلفة: وجدت دراسة عام 2009 أن سلسلة من الأنماط العصبية للنشاط الكهربائي في الدماغ؛ تظهر عندما تكون وحيداً، وهذا ما يشير إلى أنك تبحث عن السعادة بطرق غير اجتماعية، ويعتقد الباحثون أن ذلك يشير إلى أنه عندما تكون سعيداً كشخص وحيد، فإن ذلك يأتي من شيء آخر غير التفاعلات الاجتماعية، مثل عزف الموسيقى.
- يدفعك دماغك للبحث عن التفاعل: بعد فترات من العزلة الاجتماعية؛ يبدأ دماغك في ركلك ويطلب منك الذهاب والتحدث إلى شخص ما، وهذا ما يفعله الدوبامين (dopamine)، وهي مادة كيميائية مرتبطة بالتغذية المرتدة الإيجابية، فعندما تكون وحيداً تبدأ إشارات الدوبامين بتشجيعك على البحث عن اتصال اجتماعي، من ثم مكافأتك بفيض من المشاعر السعيدة عندما تجد أحدهم، هذا ما يفسر التوق للتفاعل الاجتماعي الذي قد تحصل عليه بعد مرور بعض الوقت فقط: إن عقلك يقرر أن الوقت قد حان للخروج، فيمنحك دفعة قوية من المشاعر الطيبة عندما تفعل ذلك.
- تتحسن الذاكرة: هناك بعض الفوائد الإيجابية والخطيرة في الوقت نفسه! حيث اكتشف علماء في هارفارد أنه عندما تقوم بتكوين ذكرياتك وأنت وحيد، فإنها تميل إلى أن تكون أقوى وأطول أمداً مما لو كنت قد واجهت نفس الشيء مع أناس آخرين! يبدو أن أدمغتنا تدرك أنه لا يمكننا الاعتماد على الآخرين لتذكر المعلومات الحيوية عندما نختبرها بمفردنا، نؤكد بالتالي على التخزين والتذكير الأكثر دقة، هذا هو السبب في أن الدراسة لوحدك غالباً ما تكون فكرة جيدة من الدراسة مع الزملاء.
في النهاية.. عموماً فإن القليل من الوقت وحدك ليست بالضرورة فكرة سيئة، إنه يعطينا وقتاً لإعادة الشحن، كما يجعلنا نقدّر أصدقاءنا وعائلتنا أكثر قليلاً، فلا تتفاجأ إذا جعلتك عزلة طويلة تشعر بأنك شخص مختلف، لأنه في العديد من المستويات العصبية؛ تكون قد تغيرت بالفعل... شاركنا رأيك؟ متى جربت العزلة الاجتماعية والانفراد بوحدتك آخر مرة؟