نظرة الطفل لعالم الكبار وتكوين صورة الوالدين
كنا أطفالاً وفي حضرة الكبار نشأنا وتشكل وعينا وإدراكنا، أمٌّ وأب وسيرة تربية ورعاية، ومعاناة بين متطلبات العيش ومطامح المستقبل، كنا أطفالاً وكان الأب في وعينا صورة للسلطة التي تأمر وتنهي، تسمح وتمنع، وترسم الحدود الفاصلة بين ما يجوز وما لا يجوز، كنا أطفالاً نسمع ما يقوله آباؤنا ونرى ما يفعلون، فإن راق لنا ما سمعنا ورأينا نظرنا إلى الأب بعين الإعجاب والرضا وجعلنا منه قدوة حسنة ومثلاً يحتذى، وإذا خالف صورة القدوة والمثل نظرنا إليه بعين التعجب والاستغراب وربما بعين الرفض والتمرد.
وهنا نتوقف لنتساءل ترى كيف ينظر الأطفال عادةً إلى عالم الكبار عموماً وإلى آبائهم بشكل خاص؟ ما مدى أهمية الصورة التي يقدمها الوالدان عن أنفسهم في وعي الطفل؟ ومتى يكون وجود الأب في حياة الطفل ناظماً حسناً ومتى يكون عائقاً سيئاً؟.
عمليات المحاكاة والتقليد أو حتى الاقتداء التي يقوم بها الأطفال تجاه سلوكنا ليست مجرد لعب لا هدف منه سوى التسلية، فالطفل بهذه العمليات يلاحظ ويجرب ويقارن سلوكنا أفعالنا وحتى كلامنا كلها تحت المجهر وتحت الفحص والتجريب والاختبار من قبل أطفالنا، وهكذا يكوّن الأطفال وجهات نظرهم بوجهيها السلبي والإيجابي عن شخصياتنا وصورتنا، وفق سلسلة من العمليات الفطرية، وذلك من خلال:
- الملاحظة: فالأطفال بحالة من الترَّقب الدائم والمستمر، يترقبون كل ما نفعل أو نقول، يلاحظون التوافق أو التناقض بين أقوالنا وأفعالنا، يقارنون بيننا وبين الآخرين، أو بين نصائحنا لهم وما يلاحظونه فعلاً من التزامنا بهذه النصائح، وهذه تكون الخطوة الأولى لفهم شخصياتنا.
- التجريب: بعد الملاحظة يقوم الطفل بتجريب ما رآه من سلوك الكبار وتصرفاتهم عن طريق التقليد، ومن خلال ما يستنتجه سواء من ردود أفعالنا أو من فهم هذا التصرف والسلوك على الواقع وما يفضي إليه من نتائج، يختار إما أن يستمر بهذه السلوكيات ويجعلها جزء من شخصيته أو يستبعدها ويضعها ضمن قائمة الأشياء السيئة غير المرغوبة.
- الاقتداء: بعد أن جرب الطفل أفعالنا ووضعها تحت الملاحظة والاختبار واختار منها ما هو جيد ومرغوب أو ما هو مرفوض، يلجأ إلى الاقتداء بالأشياء التي أعجبته في شخصياتنا أو التي رآها صحيحة وجيدة، وهذا يفسر سبب عدم اقتداء أطفالنا بجميع صفاتنا أو تصرفاتنا فهو بهذه العملية يختار ما يعجبه ويراه مناسباً فقط من وجهة نظره.
- التقليد والمحاكاة: ما أن يحدد طفلك الصفات والسلوكيات في شخصيتك والتي سوف يعتبرها قدوة له، سوف تراه يقلدها ويتماهى معها حتى يجعلها جزءً من شخصيته وصفة تميزه، فحتى التقليد يعد عملية انتقائية بالنسبة للطفل، بحسب الأشياء التي تعجبه وترضي رغباته وحاجاته وتقييمه.
- التقييم: في مرحلة لاحقة من عمر الطفل سوف يبدأ بتقييم ما لاحظه واختبره من سلوكنا وصفاتنا، وهذا التقييم هو الجزء الأهم في الصورة التي يكونها الطفل عن الكبار في وعيه، وهنا تكمن ضرورة تقديم أفضل صورة ممكنة ليراها الطفل ولكن دون المبالغة أو الخداع.
- تكوين وجهة النظر: وفي هذه المرحلة تكتمل الصورة التي كونها الطفل عن ذويه، ويصبح لديه وجهة نظر ربما يعجب بهم من خلالها أو يرفضهم ويتمرد عليهم، وربما يناقشهم ويرى أن لديه صفات أفضل من صفاتهم وأنه قادر على تقدير السلوك الصحيح والقيام به بشكل أفضل منهم، وقد يرى أنهم لا يستطيعون فهمه وفهم أفكاره.
أفعالنا التي تشوه صورتنا أمام أطفالنا!
محبة أطفالنا وتعلقهم بنا لا يجعل كل صفاتنا أو أفعالنا جيدة ومثالية من وجهة نظرهم، فكما ذكرنا أن الطفل لديه تقنية معينة لتقييم هذه الصفات والأفعال وتحديد ما إذا كانت جيدة ومقبولة أو سيئة ومرفوضة، وهكذا يمكن أن تتشوه صورتنا وتهتز مكانتنا لدى أطفالنا عند ملاحظة أن النموذج الذي نقدمه من السلوك والصفات يعتبر سيء على المستوى الأخلاقي أو الاجتماعي، ومن بعض الأشياء التي قد تشوه صورتنا هذه:
- سلطة الكبار: حيث أن هذه السلطة التي يملكها الكبار تجاه أطفالهم الهدف منها التوجيه والحماية والتربية، ويجب أن يشعر الطفل بهذه المسائل حتى لا يلاحظ أن الكبار يستغلون هذه السلطة مثلاً لمجرد التحكم بأطفالهم وتحديد تصرفاتهم دون هدف وغاية تقع في صالح هؤلاء الأطفال، وإلا قد ينشأ لدى الطفل شعور بأنها سلطة غير شرعية وبالتالي يسعى للتمرد عليها.
- الازدواجية بين الأفعال والأقوال: فإذا لاحظ الطفل أن الكبار يفعلون عكس ما يقولون أو لا يلتزمون بالنصائح التي يوجهونها إليه، سوف يفقدهم هذا مصداقيتهم لديه، بالتالي سوف يكوّن وجهة نظر سلبية عنهم ويقلل من قيمة نصائحهم وأوامرهم وما يملونه عليه من معايير تحدد الصحيح والخاطئ.
- السلوكيات السيئة: مثل الكلام البذيء أو العنف في التعامل معه أو مع الآخرين أو الكذب والخداع، فمثل هذه الصفات تقدم نموذج سلوكي سيء يخشى أن يقلده الطفل أو يقتدي به من جهة أو أن يشوه صورة المثل الأعلى لديه كالوالدين، بما يجعل وجهة نظره عنهم سلبية ويفقد احترامه لهم.
- العادات السيئة: وهذه أيضاً شديدة الخطورة سواء قلدها الطفل، أو نظر لها بأنها تشوه صورة النموذج المثالي الذي يرغب برؤيته لدى الكبار، مثل التدخين أو الغرور والأنانية والفضول والتدخل في شؤون الآخرين أو عدم العناية بالنظافة، والكثير من الأفعال والتصرفات الأخرى التي تعد من العادات السيئة بالنسبة للشخص.
- تصرفاتنا مع أطفالنا: فالسلوك الذي نتعامل مع طفلنا به يعد الأكثر تأثيراً في المشاعر التي سوف يكنها لنا وبالتالي الطريقة التي سوف يرانا فيها ووجهة النظر لديه عنّا، كالتصرف بأنانية أو استغلال وانتهازية، أو القسوة أو اللامبالاة، فهذه التصرفات موجَّهة للطفل نفسه ولذلك فهي أكثر عرضة للتحليل والتقييم لديه والنقد من قبله.
- الصفات الشخصية: العناد والغرور، الأناقة أو الفوضى، الصدق والكذب، النميمة والفضولية، النظافة أو قلتها، الشجاعة والجبن، كل هذه صفات تساهم في تكوين صورتنا بشكل عام، وبالنسبة للطفل هو يتوقع أن يرى هذه الصورة بأفضل حالاتها، وأي تشوه بهذه الصورة كفيل بأن يهز مكانتها لديه، خاصَّة عندما يلجأ للمقارنة بيننا وبين أهل أصدقائه وأقرانه.
- القوة والضعف: يرغب الأطفال دائماً أن يروا أهلهم يتمتعون بالقوة سواء قوة الشخصية أو القدرة على تحمل المسؤوليات والدفاع عنهم، وهم يفتخرون بآبائهم إذا ما امتلكوا هذه الخصائص، وعند ما يلاحظ الطفل ضعف من ناحية هذه الخصائص لدى والده فهذا سوف يخيب أمله وربما يشعره بالعار ويؤثر على نفسته وشخصيته.
ما هي الطرق التي تحسن صورتنا في ذهنية الطفل؟
جميعاً نرغب أن نكون مثل أعلى وقدوة لأطفالنا، ولكن قبل الوصول لهذه الغاية يجب أن نسعى أولاً لتحسين صورتنا لديه ووجهة نظره عن شخصياتنا وصفاتنا، فمن المؤكد أن التناقض بين شخصياتنا هذه والأشياء التي نريد أن يتعلمها أطفالنا بالاقتداء بنا لن يفضي إلى النتيجة المرغوبة، ولذلك يجب البحث عن الوسائل التي نتمكن من خلالها تحسين هذه الصورة في وعي وذهنية طفلنا حتى يعجب بها وبالتالي يراها تستحق الاقتداء، ويتم ذلك عن طريق:
- العمل على زيادة محبة أطفالنا لنا: سواء من خلال الاقتراب منهم والاهتمام بهم وإشعارهم بمحبتنا لهم والحنان الذي نكنه لهم بالإضافة لتشجيعنا لهم للنجاح والتفوق والوقوف إلى جانبهم بكل مرحلة والعمل على تأمين حاجاتهم وتلبية رغباتهم وأمانيهم، فكل هذا سوف يقدِّره الطفل ويفهم من خلاله مدى حبنا له وسوف يزيد من محبتنا لديه وقيمتنا، وبالتالي سوف نصل للصورة الأفضل التي يكونها عنا.
- التركيز على تقديم نموذج أفضل عن شخصياتنا: فأطفالنا هم أكثر من يستحق أن نحسن أنفسنا من أجلهم ولذلك يجب أن نجعل من شخصياتنا نموذج جيد يعجب الطفل وربما يقلده أو يقتدي به ويراه مثلاً أعلى له، فمن حيث عدم التناقض والتصرف بازدواجية ووضع معيار يحدد الأشياء التي تعد قدوة للطفل من التصرفات أو الصفات الشخصية او التمتع بموهبة أو مهارة معينة، أو الابتعاد عن السلوكيات الخاطئة والمرفوضة وخاصة أمام الطفل، وهكذا يمكن أن نحقق النموذج الأفضل الذي يرانا أطفالنا عليه.
- انتباه الوالدين لتصرفاتهما أمام الطفل: يجب أن يعرف الوالدان أنهما قدوة لطفلهما وبالتالي الانتباه لأفعالهما وتصرفاتهما أمامه، فقول أنه طفل صغير ولا يفهم يعد من الأخطاء الشائعة التي كثيراً ما تشكل وجهة نظر سلبية لدى الطفل عن ذويه، فالخلافات الزوجية مثلاً وطريقة حلها بين الوالدين بأساليب الشجار والعناد والغضب والعدوانية، أو التصرف بفوضى وعدم احترام الآخرين، كلها تصرفات يجب أن تلغى أمام الطفل للحفاظ على صورة أفضل لديه عن ذويه.
- أشياء تجعل الأطفال يعجبون بوالديهم: وجود موهبة معينة أو قدرات خاصة أو التصرف بأخلاق جيدة مع الآخرين مع توضيح سبب هذه التصرفات بالنسبة للطفل، الأناقة والنظافة والثقة بالنفس وقوة الشخصية، كلها تعد عوامل وصفات تساهم في تحسن صورة الكبير لدى الطفل وإعجابه به.
- احترام الوالدين لبعضهما وللطفل:من الضروري أن يسود طقس من الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة، فالطفل يلاحظ كيف يتصرف الكبار مع بعضهم، فمثلاً عندما يرى أنهم يعالجون مشاكلهم عن طريق العنف أو الغضب أو الشتائم، فهذا يمثل خيبة أمل بالنسبة له بالكبار الذين يرغب برؤيتهم على أفضل هيئة، وسوف يقدم نموذج سيئ وخاطئ ليقتدي به أو يتعلم منه.
- تحسين عاداتنا اليومية: حيث أنه حتى أدق تفاصيل الحياة اليومية التي يقوم بها الكبار أمام طفلهم تساهم في تكوين وجهة نظره عنهم وصورتهم لديه، مثل غسيل الأسنان قبل النوم أو الحفاظ على ترتيب المنزل ونظافته، بالإضافة لسلوك التعاون الذي يجب أن يسود في المنزل لأداء المهام المتعددة، والكثير من التفاصيل اليومية الأخرى، فجميع هذه الأشياء لها دور في الفكرة التي يكونها الطفل عن الصحيح والخاطئ في الحياة وما الذي يجب أن يلتزم به أو يبتعد عنه.
ليس بالضرورة أن يكون هدف الطفل من مراقبته لسلوك الكبار وأفعالهم التقليد والاقتداء فقط، فالطفل ينظر لكل ما هو موجود حوله ويحاول في إطار بناء شخصيته تكوين وجهة نظر تجاه كل شيء في الحياة، وأول ما يقع تحت نظر الطفل هو عالم الكبار وما يحتويه من أفكار وآراء وتصرفات وسلوكيات، وبعد النظر والملاحظة يقوم الطفل بعقد المقارنات وتحديد الخيارات التي تعجبه أو لا تعجبه حتى يكوّن وجهة نظره النهائية حول أي موضوع، وهنا تأتي أهمية دورنا ككبار في تقديم أفضل صورة ممكنة عن أنفسنا ليلاحظها الطفل ويعجب فيها ويحاول تقليدها والاقتداء بها.