الصحة النفسية في عالمنا المعاصر
لا يعني التمتع بالصحة النفسية فقط الخلو من الأمراض كالوسواس والفوبيات أو الهلاوس والاضطرابات؛ وإنما يعني إلى جانب كل هذا وجود علامات إيجابية يتمتع بها الفرد ويشعر بها في نفسه وعلامات أخرى يلاحظها المجتمع والمحيطين به.
لنتعرف أكثر إلى الضغوطات التي نواجهها في العصر الحديث وكيف تنعكس على الصحة النفسية وجودة الحياة، ثم ما هي العلامات التي تدل على الصحة النفسية الجيدة وكيف نصل إلى جودة الحياة؟ وما الأعراض أو العلامات التي تدل على وجو مشكلة نفسية ما؟.
من السمات البارزة في عالمنا اليوم شيوع القلق والتوتر والارتياب بين الناس، ويرجع هذا لعدة عوامل وتغيرات عديدة يمر بها مجتمعنا العربي اليوم؛ فمن متغيرات اقتصادية متسارعة لتغيرات اجتماعية تزيد من وتيرة الاحتكاك بين الناس والتناحر في بيئات مثل العمل من أجل إرضاء الحاجات المادية والنفسية ومحاولة تخطي الإنسان لتلك العقبات من أجل إشباع حاجاته وخوفاً من الفشل والقلق على المستقبل؛ بالتالي تقل فرص الاستمتاع بالحياة وتفقد الوجوه الابتسامة وتزداد فرص الإصابة بالإحباط؛ فيزداد القلق مما يجعل الفرد عرضة للاكتئاب.
أضف إلى ذلك ما نشهده من صراعات سياسية وتقلبات ثورية وحروب في كثير من البلدان لم نعد نسمع عنها أو نقرأ أخبارها في الصحف، بل أصبحنا نشاهدها مباشرة في مختلف وسائل الإعلام المرئية، حتى أن صور الكوارث المصاحبة لها تلاحقنا في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك إما أن يشعر الإنسان بفقدان الأمان في بلده الذي يعيش فيه أو يشعره بالعجز أمام ما يحدث في بلد آخر، وهذا بدوره ينعكس على الصحة النفسية.
فالشعور بالعجز المستمر أمام ما نراه والشعور بالإحباط من عدم القدرة على فعل شيء يصيبنا باليأس والاكتئاب، وبدون أن نشعر ينعكس هذا على سلوكياتنا ويظهر في صورة عنف فردي ومشاحنات فى بيئات العمل والمدرسة والأسرة، أو يصيب الإنسان بالخنوع والرتابة؛ فيفقد الفرد القدرة على التعبير ويصاب باللامبالاة والعزلة!.
ومن هنا تأتي أهمية علوم الصحة النفسية من أجل وقاية الإنسان وتحصينه من تأثير تلك العوامل المحيطة به، وكذلك إمداده بأساليب تساعده على الإستقرار النفسي وتكسبه القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة والتعاطي مع ضغوط الحياة.
ويمكننا اعتبار معنى "الصحة النفسية" مرادف لـ جودة الحياة؛ فمن خلال فهمنا لعلامات التمتع بالصحة النفسية وبعض الأساليب التي تساعدنا على بلوغها وكذلك الأعراض التى تنبؤنا عن بداية ظهور إعتلال نفسي وبداية تأثُر صحتنا النفسية به، نستطيع علاج وتحسين الشعور بجودة الحياة والسعادة بها.
التوافق الاجتماعي
- ويتمثل في قدرة الفرد علي إقامة علاقات اجتماعية تتسم بالتعاون المشترك والتسامح والمشاركة الإيجابية.
- وجود دور بناء في المجتمع والقدرة على المساهمة الفعالة.
التوافق الذاتي
- ويتمثل في قدرة الفرد على التوفيق بين قدراته وتطلعاته؛ وذلك عندما يعرف جيداً قدراته ومواطن قوته وضعفه ويتقبلها، كذلك التمتع بالقدرة على ترتيب الأولويات والعمل على إنجازها.
- كما يتمثل التوافق الذاتي أيضاً في قدرة الفرد على حل الأزمات وعدم الهروب منها، والقدرة على التكيف مع الضغوط والتحلي بالمرونة.
- كذلك القدرة على الصمود أمام الأزمات بدون تهور أو عنف وبدون التحدث السلبي مع الذات.
الشعور بالرضا والسعادة
وهنا يشعر الفرد بالإستمتاع بالحياة والطمأنينة وراحة البال، والرضا عن عمله وأسرته وأصدقائه؛ وهذا يعد نتيجة طبيعية للتوافق الذاتي والاجتماعي، لتكتمل بذلك جودة الحياة.
ولعلنا نتسائل هل نستطيع أن نحافظ على سلامنا وصحتنا النفسية في ظل المتغيرات التي تحدث من حولنا، وهل هناك من طرق علمية بسيطة تمكننا من الاستمرار في التمتع بالصحة النفسية؟ فالإجابة نعم.
هناك العديد من التوصيات العملية والعلمية التي تجعلنا باتباعها نصل إلى الشعور بجودة الحياة والتكيف مع متغيراتها، ومن تلك التوصيات:
اعرف نفسك
التأمل في النفس ومعرفتها ضرورة داعمة لصحتك النفسية؛ فمعرفة عوامل القوة لديك وجوانب الضعف عندك تساعدك على رسم خطة حياتك وطموحك بدقة وفق معرفة حقيقية لذاتك وقدراتك، لا وفق خيال وتوهم قدرات غير متوفرة لديك.
كذلك معرفة الدوافع والأهداف التي تحركك وتمثل قيمة لديك، فمعرفة دوافعك تقيك من الاندفاع والمتاعب وتبعد عنك المشكلات، وأيضاً معرفتك بالحيل الدفاعية اللاشعوية التي تستخدمها ومحاولتك التحكم بها والسيطرة عليها.
مواجهة المخاوف وحلها
يمكنك كتابة مخاوفك والعوامل التي تسبب لك قلقاً في العمل أو البيت أو العلاقات؛ ومن بعد قم بقياس تلك المخاوف ومعرفة ما يمكنك تجنبه منها وما قد تحتمله وما قد تتأهب لمواجهته، وحساب الاحتمالات وطرق المواجهة.
لا تخدع نفسك
هل يمكن أن يخدع الإنسان نفسه؟ من الممكن أن نخدع أنفسنا بطريقتين دون أن نشعر:
الأولى: هي إنكارنا لعيوبنا ودوافعنا السلبية! فهل من إنسان خالي من العيوب والنقائص؟، لا ضرر من وجود العيوب فهي سمة إنسانية ولكن الضرر في إنكارها.
اعترف أمام نفسك بعيوبك وتقبل وجودها ولا تحاول إنكارها والتهوين منها، مع محاولة السيطرة عليها لكي لا تعيق طريق سعادتك وتكامل جوانب حياتك.
وأما طريقة الخداع الثانية فهي: كبت المشاعر ظناً منا أن كبتها ينسينا إياها، فمثلاً كبت الطالب لخوفه من إمتحان سيخوضه بعد أيام وإنكاره لمشاعر الخوف وتجاهله إياها لا ينسيه خوفه، بل يظهر الخوف ساعة دخوله للامتحان فيمنعه من تذكر الإجابات.
اشترك في نشاط اجتماعي
و لكي تتعرف أكثر على قدراتك وإمكاناتك وأن تختبرها عليك بمشاركة الجماعات في نشاط ما، فهذا من الممكن أن يعرفك على إمكانات وقدرات موجودة في شخصك لكنها مهملة أو أنك كنت لا تشعر بوجودها، وعن طريق المشاركة في الأنشطة الاجتماعية ستتعرف على إمكاناتك وقدراتك مما يزيد من ثقتك بنفسك ويرفع مستوى سعادتك.
وأيضاً مشاركة الناس في نشاط ما والتعرف على أشخاص جدد وتكوين علاقات اجتماعية متنوعة؛ فيه الكثير من الدعم والنفع والعون على الحياة، وأيضاً فيه من النقاشات ما يزيد من معرفتك و إكتسابك أفكارا وطرقا جديدة تعينك على حل ما قد يطرأ من أزمات، والتعرف على وجهات نظر مختلفة تثري فكرك وشخصيتك.
الأصدقاء
وجود صديق مقرب يسمع ويتفهم ويتجاوب مع المشاعر هو أمر هام، فهو ينصح ويتفاعل معك وأنت تشكو من مشكلة ما فيتيسر حلها، والصديق الوفي هو معين قوي، وهو مرآة للنفس، فمن خلال نقاشك مع صديقك في فكرة قد تراها أنت من منظور غير واقعي أو تبالغ في مشاعرك تجاه حدث ما، يصبح دوره هو الكشف عن عيوب التفكير وتصحيح رؤيتك للأمور.
تعلم حل المشكلات بالطرق الصحيحة
لا شك أن الأسلوب العلمي لحل المشكلات والتفكير الموضوعي هو أنسب الطرق لحل أي مشكلة فهو يوضح لك الرؤية ومعرفة جميع الجوانب وتحليلها والمفاضلة بين الحلول لاختيار أصلحها.
إتقان العمل
إتقان العمل قيمة أخلاقية ودينية، كما أنه يحمل شعوراً بالنجاح والإنجاز ويؤدي للثقة بالنفس، ولكي نتقن ما نعمل يجب الاهتمام بالكيف لا بالكم، فإنجاز عمل متقن نرضى عنه خير من ثلاثة أعمال مهترئة لا تشعرنا بالرضا.
التركيز على الحاضر
لا خير في التحسر على ماضٍ أو القلق المبالغ تجاه المستقبل، تدرب على التركيز في الحاضر وتعلم من خبرات الماضي وأعمل في يومك لمستقبلك، بدون قلق أو إغفال الاستمتاع بيومك.
الاهتمام بصحة الجسد
الاهتمام بالصحة العامة وصحة الجسد وعلاج الأمراض وعدم إرهاق الجسد وأيضاً تناول الغذاء الصحي والحصول على قسط كاف من النوم كلها عوامل تفيد صحتنا النفسية.
حافظ على ممارسة نشاط بدني يقوي جسدك، فعالمنا اليوم كثرت فيه سبل الراحة والرفاهية وطبيعة الكثير من الأعمال تبقينا جالسين على مكاتب أو في السيارة لوقت طويل مما يصيب الجسد بالخمول والإرهاق السريع من أقل مجهود ويقلل القدرة على مقاومة الأمراض، و قد ينعكس هذا كله سلباً علي صحتنا الجسدية والنفسية.
و تذكر دائماً أن السعادة معدية والكآبة أيضاً معدية، أحِط نفسك بالسعداء وابتعد عن كل من يبث الكآبة من المحيطين حولك أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
ما هي العلامات والسلوكيات التي تنبئ بوجود مشكلة في الصحة النفسية؟
هناك بعض العلامات التي إن وجدتها أو كنت تعاني منها، أو لاحظت أن أحد أفراد أسرتك أو أصدقائك يعاني منها فهذه علامة تحذير وجرس إنذار على وجود اعتلال في الصحة النفسية، وهي ليست علامات تظهر مجتمعة بل يعد ظهور عامل واحد أو أكثر هو جرس إنذار.
على الجانب السلوكي: نلاحظ تغيرات في العادات مثل:
- الأكل والنوم: إذا لاحظت تغير في وجبتك المعتادة، سواء كان هذا بالزيادة الملحوظة أو النقصان سواء في عدد الوجبات أو الكمية؛ فذلك مؤشر لكي تنتبه، كذلك عدد ساعات النوم إذا كان بالزيادة أو النقصان بدون سبب ظاهر، يعد مؤشر واضح على وجود مشكلة.
- الأنشطة المعتادة: كلما وجدت نفسك تبتعد عن الأنشطة المعتادة دون سبب مصحوباً برغبة في الابتعاد عن الناس والميل إلى العزلة؛ فيجب الانتباه وزيارة أخصائي واستشارته.
- الطاقة والنشاط: حينما يقل نشاطك وتنخفض طاقتك ولا تقوى على إكمال يومك المعتاد بنفس النشاط الذي اعتدته.
- الألم: وجود الأوجاع والآلام غير المبررة، و التي ليس لها سبب طبي واضح والتي تعد أعراض سيكوسوماتيك ناتجة عن ضغط نفسي.
- الشعور بالعجز أو اليأس: شعورك بالعجز عن حل ما يطرأ من مشكلات أو متغيرات في الحياة، واليأس من إيجاد الحلول أو حتى اليأس من قدرتك على التغيير.
- التدخين والمنبهات: فمن الممكن أن تكون غير مدخن وأقدمت على التدخين، أو إن كنت مدخناً وزاد معدل إستهلاكك اليومي من التدخين أو شرب المنبهات بكثرة على غير العادة، فهذا جرس إنذار أيضاً.
أما على الجانب الشعوري:
شعورك بالارتباك بصورة غير مبررة أو طبيعية، والنسيان، وسرعة الغضب والشعور بالقلق أو الخوف، وحدوث المشكلات بينك وبين أفراد الأسرة أو الأصدقاء مصحوباً بالغضب والصراخ وسهولة الاستثارة، وكذلك التقلبات المزاجية الحادة والتي تؤدي إلى ظهور مشكلات في العلاقات.
وأخيراً على الجانب الفكري:
ظهور أفكار محبطة وذكريات حزينة لا تسطيع التحكم فيها أو إخراجها من رأسك.