الهروب من المسؤولية بين الأسباب والحلول
يُظهر الأطفال ميلاً مبكراً للهروب من المسؤولية يجعلنا نظن أن الهرب من المسؤولية ميل إنساني عام!، ففي عالم الكبار أيضاً يبدو الهروب من المسؤولية سلوكاً شائعاً، وقلما تجد من لم يهرب من بعض المسؤوليات الكبيرة في حياته ولو مرة واحدة على الأقل.
لكن لماذا نهرب من المسؤولية؟ ما هي أشكال الهروب من المسؤولية؟ كيف يؤثر الهروب من المسؤولية على حياتنا؟ وهل هناك ما يمكن فعله للتخلص من الهروب من المسؤولية؟.
الراحة والرفاه والاستقرار أهداف أساسية لنا جميعاً، والمسؤولية من الأحمال الثقيلة التي قد تهدد هذه الأهداف حتى وإن كان تحمُّل المسؤولية خطوة لازمة لتحقيقها، وإذا نظرنا إلى سلوك الأطفال بالتعامل مع المسؤوليات المختلفة يمكن أن نفهم الميل الإنساني العام لتحمُّل أقل قدر من المسؤولية.
فقبل إدراك الإنسان لقيمة السلطة والصورة الاجتماعية والمجازفة مقابل الجزاء والقيم المعقدة الأخرى؛ يميل إلى الهروب من تحمل أي مسؤولية، ويرغب دائماً بالحصول على المتعة والرفاه دون مواجهة الحساب ودون أن يحمل على عاتقه مسؤولية العناية بالآخرين.
ومع نمو وتطور الشخصية تتشكل لدى الفرد نظرة أوضح نحو المسؤوليات المختلفة، ويطوِّر آليات للهروب من المسؤولية أو تحملها حسب سمات الشخصية العامة، فالفرد الذي يتميز بالشجاعة والإقدام يبدي قدراً كبيراً من تحمُّل المسؤولية، فيما يلجأ الفرد الذي يعاني من المخاوف وضعف الشخصية إلى الهروب من المواجهة والهرب من تحمل مسؤولية الآخرين أو مسؤولية نفسه، وسنتعرف في السطور القادمة كيف تلعب السمات الشخصية العامة والمشاكل والاضطرابات النفسية دوراً كبيراً في اتخاذ قرار تحمُّل المسؤولية أو الهروب منها.
كما ذكرنا فإن الهروب من المسؤولية ليس حالة نادرة، فحتى الأشخاص الذين يعتقدون أنهم الأكثر تحملاً للمسؤولية لا بد لهم من اختبار الرغبة بالهروب مرات عدة في حياتهم وتنفيذ هذه الرغبة مرة واحد على الأقل.
وفي سبيل تحديد مفهوم الهروب من المسؤولية لا بد من النظر إلى الأسباب المختلفة التي تدفعنا إلى الهروب من المسؤولية بصفة عامة أو في الحالات الفردية.
الهروب من العقاب
الهروب من العقاب واحد من أهم دوافع الهروب من المسؤولية ومن أولها ظهوراً في حياة الإنسان، حيث ينكر الأطفال أفعالهم ويلقون اللوم على الآخرين ويحسبون ألف حساب قبل تحمل مسؤولية أعمالهم أو تحمل مسؤولية أشخاص آخرين؛ كل ذلك خوفاً من العقاب، والهروب من العقاب قد يتحول إلى هاجس خطير، يجعل من الفرد يضع افتراضات غريبة تدفعه للهروب من أقل المسؤوليات مستقبلاً.
تدني احترام الذات
نظرة الفرد إلى ذاته تتحكم بسلوكه وخياراته إلى حد بعيد، لذلك قد يكون تدني احترام الذات والشعور الدائم بانخفاض القدرة على الأداء سبباً مهماً للهروب من المسؤولية، فشعور الفرد أنه غير قادر على المنافسة وأنه لا يستطيع اكتساب خبرات جديدة ولا يستطيع القيام بأعمال مميزة أو ناجحة يجعله مقيماً في منطقة الراحة ورافضاً لتحمل أي مسؤولية إضافية.
وفي سياق انخفاض احترام الذات يمكن وصف ثلاثة دوافع للهروب من المسؤولية:
1- الخوف من ارتكاب الأخطاء: مع تدني احترام الذات يشعر الفرد دائماً أنه سيرتكب خطأ ما، ويكون أقل قدرة على التعامل مع المشاعر السلبية التي تنتج عن ارتكاب الأخطاء، لذلك يرفض قبول المسؤولية.
2- الخوف من الفشل: في سياق متصل فإن تدني احترام الذات يعني الخوف الدائم والعميق من الفشل، لأن الفرد لا يثق بقدرته على النجاح من جهة ولا يمتلك القدرة على التعامل مع الفشل كجزء من مسيرة الحياة، لذلك يرفض تحمُّل المسؤولية لأنه يفترض مسبقاً أنه سيفشل أو يفترض مسبقاً أنه لن يستطيع احتمال الفشل ولن يتسامح الآخرون مع فشله.
3- الخوف من المواجهة والمنافسة: من المشاكل التي تتعلق بتدني احترام الذات أيضاً الخوف الدائم من المنافسة والمواجهة، فقد يقبل الفرد تحمُّل المسؤولية على مضض إن كان متأكداً أنها خالية من المواجهة والمنافسة، لكن بمجرد ظهور منافس على إثبات الجدارة أو مواجهة محتملة ينسحب سريعاً.
اللامبالاة والإهمال
الإهمال واللامبالاة من السمات التي يكتسبها الإنسان من خلال التربية والتجارب المبكرة، وعندما كانت المسؤولية تحتاج لقدر كبير من الالتزام والاهتمام بالآخرين؛ فإن الأشخاص اللا مبالين أقل رغبة بتحمل المسؤولية.
الأنانية والنرجسية
يفكر البعض ببساطة "لست مضطراً لتحمُّل المسؤولية"، فالأنانية قد تجعل حتى الآباء والأمهات أقل رغبة بتحمل مسؤولية الأبناء، وفي نفس الوقت قد تكون النرجسية سبباً ودافعاً لتحمُّل مسؤوليات كبيرة في سبيل إثبات الذات والظهور بالصورة المنشودة، يتعلق ذلك بالعوامل الأخرى التي تتحكم بخيارات الشخص الأناني وسلوكه.
المشاكل والاضطرابات النفسية
هناك مجموعة من الاضطرابات والمشاكل النفسية التي تدفع إلى الهروب من المسؤولية، أبرزها اضطراب الشخصية النرجسية، اضطرابات الخوف، تدني احترام الذات والشعور بالدونية، اضطراب الشخصية الاعتمادية، اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وغيرها من اضطرابات الشخصية والأزمات النفسية.
المسؤولية المريرة
التجارب السابقة مع المسؤوليات قد تكون سبباً وجيهاً للهروب من المسؤولية، فالموظف الملتزم بعمله والذي يتحمَّل المسؤوليات الموكلة إليه ثم يتم طرده تعسفياً من الشركة سيتهرَّب من تحمل المسؤوليات في الوظيفة القادمة، كذلك من يفشل فشلاً كبيراً في إحدى المسؤوليات قد يخاف من تكرار هذه التجربة، أضف إلى ذلك التجارب السيئة التي تولد الشعور العميق بالندم، فالتعرض للخيانة الزوجية مثلاً قد يدفع الطرف المخدوع للتنازل عن جميع مسؤولياته ورفض المسؤوليات الجديدة.
يمكن التمييز بين ثلاثة أشكال رئيسية للهروب من المسؤولية:
1- الهروب المسبق من المسؤولية: وهو رفض تحمُّل المسؤولية مسبقاً، والتهرب من أي إجراءات أو خيارات قد يترتب عليها مسؤوليات جديدة مهما بلغت.
2- التخلي عن المسؤولية: في هذه الحالة يقع الفرد تحت مسؤولية إجبارية لكنه لا يقوم بها، كهروب الزوج من مسؤولياته تجاه أسرته، أو هروب المدير من مسؤوليته تجاه مرؤوسيه.
3- إلقاء اللوم على الآخرين: من أبرز أشكال الهروب من المسؤولية هو إلقاء اللوم على الآخرين ومحاولة وضع تبريرات وحجج لرفع المسؤولية، فالفشل بالقيام بمتطلبات المسؤولية على الرغم من المحاولة يدفعنا إلى لوم الآخرين، وفي حالات اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع مثلاً يعتبر إلقاء اللوم على الآخرين سلوكاً مستقراً ودائماً ومرضياً.
من جانب آخر هناك آليات مختلفة نتبعها للتهرُّب من المسؤولية؛ منها مثلاً:
1- الاستخفاف بالمسؤوليات للهروب منها؛ فنجد الشخص يقوم بتسخيف المهمات والمسؤوليات والادعاء أنها أقل من قدراته ليهرب منها.
2- إلقاء المسؤولية على الآخرين: من آليات الهروب من المسؤولية تحميلها لشخص آخر، حيث يلعب الشخص دور الضحية ويحاول تجيير المسؤولية للآخرين، لماذا أنا؟، لن أضحي بعد الآن!، لا أحتمل أكثر....إلخ.
3- الهجوم؛ فنوبات الغضب والهجوم على الآخرين ونبش الدفاتر القديمة والتمسك بتفاصيل صغيرة من شأن النقاش بها أن يكون عقيماً... جميعها آليات فعالة للهروب من المسؤولية.
4- الاعتراف بالهروب من المسؤولية؛ حيث يعترف البعض أنه لا يرغب ببساطة بتحمل المسؤولية، وقد يحدد الأفكار أو المشاعر التي تدفعه إلى التنازل عن أي مسؤوليات، هذه الحالة هي الأقرب إلى العلاج لأن الشخص يعرف دوافعه ويعترف أنه لا يريد تحمُّل المسؤولية.
5- الهروب من المسؤولية بالنوم؛ من الحالات الشائعة النوم عند الشعور بثقل المسؤولية، كما يحصل مع بعض الطلاب الذين يخافون من الامتحان فيساعدهم عقلهم الباطن على النوم وتفويت موعد الامتحان.
6- الهروب حرفياً؛ كما يحصل عندما يهرب العريس من العرس، أو عندما يهرب الموظف ويختفي بدلاً من تقديم استقالته بالطريقة الطبيعية، فعلى الرغم أن الاستقالة حق إلى أنها تحتاج للمواجهة وتحمُّل مسؤولية القرار وتبعاته.
مثال آخر؛ عندما تطلب خدمة ما من أحد معارفك كأن يكفلك في البنك لأخذ قرض، سيوافق بدافع الخجل ويؤكد أنه مستعد لذلك، لكنه سرعان ما يتهرب من الرد على اتصالاتك وقد يغير رقمه ويحاول قدر الممكن أن يقطع أي اتصال ممكن معك.
بالنسبة لأصحاب الشخصية اللا مبالية والمهملين وحتى النرجسيين فإن الهروب من المسؤولية أمر ممتع يساعدهم على الاتساق النفسي والشعور بالراحة، لكن الهرب من المسؤولية لمن يعاني من تدني احترام الذات يعزز شعوره بالنقص والدونية، كذلك لمن يعاني من الخوف المرضي والهواجس، وعلى وجه العموم يمكن تحديد ثلاثة مجالات لتأثير الهروب من المسؤولية:
1- تأثير الهروب من المسؤولية على العلاقات الاجتماعية: فلا أحد يرغب بالتعامل مع شخص يرفض تحمل أي مسؤولية، الأصدقاء ينفرون ممن يلقي اللوم عليهم ويتخلى عنهم في الظروف الصعبة لأنه لا يريد تحمل المسؤولية، الشركاء العاطفيون ينفرون من الشخص الذي يتخلى عن مسؤولياته، حتى الأبناء ينفرون من الآباء غير المسؤولين، فيما يعتبر تحمُّل المسؤولية من الصفات التي يقدرها المحيط الاجتماعي بشكل كبير.
هذا التأثير المباشر على العلاقات الاجتماعية يخلق ضغطاً متزايداً على الهارب من المسؤولية، لكن هذا الضغط قلما يدفعه إلى تحمُّل المسؤولية، بل قد يدفعه إلى المزيد من الهروب والانزواء.
2- تأثير الهرب من المسؤولية على الحياة الشخصية: من جهة يقفل الهارب من المسؤولية الكثير من الأبواب المفتوحة تمسكاً بمنطقة الراحة والأمان، ومن جهة أخرى فإن نتائج الهروب من المسؤولية تؤدي إلى ضغط نفسي شديد قد يقود لحالة من الاكتئاب وفقدان الحوافز في الحياة، لذلك يعتبر اضطراب الألعاب الالكترونية مثلاً من أشكال الهروب من المسؤولية، كذلك يعتبر تعاطي المخدرات والكحوليات من أشكال الهروب من المسؤولية.
3- تأثير الهروب من المسؤولية على الأسرة والأطفال: إضافة إلى المشاكل الزوجية الكثيرة التي تنتج عن عدم تحمَّل أحد الزوجين لمسؤولياته والتنازل عنها والإخلال بها، فإن فرص انتقال الهروب من المسؤولية من الآباء للأطفال كبيرة جداً، كما أن هروب أحد الوالدين من مسؤولياته قد يؤدي إلى عدم حصول الأطفال على حقوقهم بالتربية والتعليم وحتى بالغذاء!.
كيف يمكن مواجهة الهرب من المسؤولية وعلاجه؟
ما لم يكن الهروب من المسؤولية متعلقاً باضطراب نفسي مشخَّص فإن مواجهته ممكنة ذاتياً من خلال إعادة النظر ببعض الأفكار والمفاهيم، وعادة ما يستطيع الأشخاص الأسوياء تقدير وضعهم بشكل جيد وفهم الأسباب والدوافع التي تجعلهم لا يرغبون بتحمُّل المسؤولية، فيما يؤدي الاضطراب النفسي إلى نوع من تشوش الأفكار وعدم القدرة على فهم الهروب من المسؤولية كمشكلة.
ومن أهم الآليات التي يمكن التفكير بها لعلاج الهروب من المسؤولية:
1- حدد الأسباب التي تجعلك لا تريد تحمُّل المسؤولية، هل أنت خائف من المنافسة مثلاً؟ يجب إذا أن تعالج خوفك هذا من خلال البدء بمنافسات بسيطة، هل تخشى المغامرة والمجازفة؟ يجب أن تتدرب إذاً على الخروج من منطقة الراحة.
تحديد أسباب ودوافع الهروب من المسؤولية إجراء لا بد منه لإعادة بناء منظومة المسؤوليات لديك، وتأكد أنك تقوم بكتابة أفكارك دائماً والرجوع إليها ثانيةً لتقييم تقدمك وتقييم صحة تقديرك للأمور.
2- توقف عن إلقاء اللوم على الآخرين؛ عندما تشعر أنك تريد اتهام الآخرين وتحميلهم مسؤولية الأخطاء أو مسؤولية معالجة المشاكل قم فوراً بالتفكير بما يمكنك فعله أنت في سبيل التراجع عن الخطأ ومعالجته.
توقف للحظة عن التفكير بالآخرين ودوِّن باستخدام الورقة والقلم أو ملاحظات الهاتف المحمول خمسة إجراءات تستطيع أنت القيام بها لمعالجة الخطأ أو المشكلة، تأكد أنك جزء من كل شيء في محيطك ولا يمكن أن تلقي اللوم على الآخرين بالمطلق.
حتى إن كنت تشتكي من عدم تحمُّل الآخرين للمسؤولية، فكر بدورك في تحميلهم المسؤولية، فكر بقدرتك على دفعهم إلى المسؤولية قبل أن تلومهم.
3- من قواعد الإدارة الأساسية أن المهام تفوَّض لكن المسؤولية لا تفوَّض، فنقل المهام للآخرين لا يعني أنك لم تعد مسؤولاً عن النتائج، الوزراء مثلاً تتم محاسبتهم عن أداء وزاراتهم أمام مجلس الشعب ولا يتم استدعاء الموظفين أو القائمين على الأعمال بشكل مباشر، لأن الوزير يفوِّض العمل لكن المسؤولية ملتصقة به شاء أم أبى.
وبما أن المسؤولية حتى إن هربت منها هي لن تتركك، فتحملها أفضل بألف مرة من محاولة التملص منها، لأن الهروب منها ضعف وجبن، وتحملها يدل على احترامك لذاتك وللآخرين.
4- اكسر دائرة الأعذار، فالتبرير وخلق الأعذار من الآليات التي نتبعها لتخفيف ألم الهروب من المسؤولية، في أول مرة تبدأ في البحث عن الأعذار يجب أن تكبح نفسك وتتوقف عن التبرير وتفكر بالإجراءات، اكبح الصوت السلبي الذي يخبرك أن الأمور على ما يرام وأنك على حق ولديك ما يبرر هروبك من المسؤولية.
5- أعد وضع أهدافك وطموحاتك، فالهروب المستمر من المسؤولية يؤدي إلى انخفاض سقف الطموحات والأهداف والتنازل عن الكثير من شغفنا، وإعادة تقييم الأهداف يجعلنا أكثر تقبلاً للمسؤوليات بوجود حوافز قوية.
6- توقف عن التسويف والمماطلة؛ فعادة ما تشكل محاولات المماطلة والتأجيل العمود الفقري للاستخفاف بالمسؤولية والتملص منها، تعرف أكثر إلى قيمة الثواني الخمسة الأولى في سبيل مواجهة التسويف والمماطلة من خلال هذا الرابط.
7- اطلب المساعدة، إن كنت تعتقد أنك عاجز عن معالجة الهروب من المسؤولية ذاتياً أو تحتاج إلى مساعدة لا تتردد بطلبها من الأصدقاء الموثوقين، أو من المعالج النفسي، وستجد مجتمع حلوها مستعداً دائماً لتقديم النصائح، كما يمكنك التواصل مباشرة مع خبراء موقع حلوها من خلال خدمة ألو حلوها.
أخيراً... القاعدة الأساسية التي يجب أن نتمسك بها هي أننا مسؤولون عن حياتنا مسؤولية كاملة لا يمكن الهروب منها أو الإفلات منها، وكل محاولات الهروب من المسؤولية هي مجرد إعلان ضعف لا يؤدي إلى التخلص من المسؤولية في نهاية المطاف، فهناك خياران فقط؛ إما أن تتحمَّل المسؤولية أو أن تخدع نفسك أنك قادر على الهروب، أما التنازل عن المسؤولية فغير ممكن لأنها ملتصقة بنا كالتصاق الجلد باللحم.