قواعد المنافسة الشريفة في العمل
عندما نتعرَّض لمنافسة غير شريفة في العمل يقفز إلى الذهن سؤال صعب: هل يجب أن نتمسَّك بالنزاهة؟ أم يجب أن ندخل هذه المنافسة بأساليب غير شريفة تلائم المنافس والجو العام؟ أم سيكون الانسحاب من المنافسة هو الحل؟!.
وفي سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة المعقدة لا بد أولاً أن نعيد النظر بمعنى ومفهوم النزاهة العام والخاص، ولا بد أيضاً أن ندرس بيئة العمل ومعايير المنافسة التي تسعى الإدارة لترسيخها، كما يجب أن نفكر بمدى قدرتنا على الفوز دون اللجوء إلى أساليب ملتوية، هذا ما نحاول أن نبحث به من خلال هذا المقال.
على وجه العموم فإن المنافسة تعتبر من أقوى الدوافع الإنسانية التي تتحكم بالسلوك وتحرِّكه، وإن كانت المنافسة في مرحلة الطفولة تبدو فطرية إلى حدٍّ بعيد ويسعى المربون لتنظيمها وتقويمها؛ فالمنافسة عند الكبار عملية منظَّمة تهدف إلى تحقيق الذات بالدرجة الأولى وتحقيق المكاسب المادية والمعنوية المختلفة والمتنازع عليها أو بالأحرى المطلوبة من أكثر من طرف والمعروضة من طرف واحد.
من هذا المنطلق تسعى الإدارة الحكيمة إلى وضع خطة إدارية واضحة تنظِّم المنافسة بين الموظفين والعاملين، فالمنافسة في العمل تؤثر بشكل مباشر على إنتاج الموظفين والعاملين وعلى رضاهم الوظيفي وحتى على علاقاتهم الفرعية داخل المؤسسة أو المنشأة.
ويمكن تتبع الإجراءات التي تقوم بها الإدارة لتغذية المنافسة البنَّاءة بين الموظفين من خلال أنظمة الحوافز والمكافآت، ونظام الترقية والتدرج الوظيفي، وطريقة التكريم والجوائز المعنوية، إضافة إلى فرص إثبات الجدارة كطلب الدراسات أو الاقتراحات.
وفي حال كانت الإدارة تقصد تعزيز المنافسة بين الموظفين بشكل واعٍ فهي تلجأ إلى تغذية مشاعر الغيرة البنَّاة بينهم مع اتاحة الفرص المتساوية أمام الجميع لإثبات الجدارة، ما ينعكس مباشرة على إنتاجية العامل أو الموظف وأدائه.
هذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود منافسة في العمل خارجة عن سيطرة الإدارة وتنظيمها، منافسة بين الموظفين هم يضعون قواعدها، فإما أن تكون تجسيداً للتعاون والمنافسة الشريفة، وإما أن تكون تجسيداً لعداوة أبناء الكار والمنافسة غير العادلة والصراع على السلطة وإثبات الذات.
لا تتخذ المنافسة في العمل صورة جامدة أو شكلاً واحداً لا يتغير، فبيئة العمل باختلاف شكلها تؤدي إلى أشكال عديدة من المنافسة بين الموظفين والعاملين، والسمات الشخصية للموظف أيضاً ترسم حدود المنافسة التي يرغب بها مع زملائه، ويمكن تلخيص أشكال المنافسة في العمل كالآتي:
المنافسة على المناصب
من أكثر أشكال المنافسة في العمل شيوعاً المنافسة على الترفيعات والمناصب، وتأخذ هذه المنافسة بالتصاعد مع تصاعد المستويات الإدارية، كما أن المنافسة على المناصب الرسمية في المؤسسات الحكومية قد تكون أقل بكثير لأن الترفيعات والمناصب لها قواعد أقل مرونة مقارنة بالقطاع الخاص الذي يسعى إلى وصول الأجدر إلى المنصب بغض النظر عن فترة خدمته وفي بعض الأحيان بغض النظر عن مؤهلاته العلمية ودرجته في السلم الوظيفي ما دام جديراً.
وتستغل الإدارة المنافسة على المناصب بين العاملين والموظفين بذكاء من خلال الترشيح والترغيب وربط الوصول إلى المنصب والترقية بالأداء والإنتاج، حتى وإن كانت قد اختارت من سيشغل المنصب الشاغر مسبقاً.
المنافسة على الحوافز المكافآت
يساعد نظام الحوافز والمكافآت على تحسين أداء الموظفين وإنتاجهم، وتعزيز رضاهم الوظيفي، وفي نفس الوقت يخلق نظام الحوافز والمكافآت بيئة منافسة إيجابية تصب في مصلحة المؤسسة.
المنافسة على إثبات الذات
رغبة الموظف أو العامل بإثبات ذاته أمام الإدارة وأمام الموظفين الآخرين تدفعه إلى الدخول بالمنافسات المتاحة، هذه المنافسات قد تكون غريبة في بعض الأحيان، فيقوم عمال الرفع والنقل مثلاً بالمنافسة فيما بينهم على من يستطيع حمل أكبر عدد من الأكياس أو الصناديق في وقت واحد، على الرغم أن ذلك لن ينعكس على مرتبه ولا يدخل في نظام الحوافز والمكافآت ولن يؤهله إلى منصب جديد، بل قد يسبب له مشاكل صحية تمنعه عن العمل!، لكن منافسة من هذا النوع هدفها الأول هو إثبات الذات.
وتسعى الإدارة لتعزيز رغبة الموظفين بإثبات الذات من خلال شهادات التقدير وخطابات الشكر والمكافآت المالية غير المستقرة، إضافة فتح مجال الترقية حتى ولو كانت ترقية وهمية تعزز شعور إثبات الذات دون أن تقدم فوائد أخرى للموظف.
المنافسة اللئيمة
المنافسة اللئيمة تظهر بين الموظفين عندما يمتلك أحدهم رغبة محمومة في إبعاد الآخرين من الواجهة واحتلال الصدارة، أو عندما يشعر أحد الموظفين أن مكتسباته الوظيفية بخطر بسبب موظف آخر، وغالباً ما تتحول المنافسة اللئيمة إلى حرب بين موظفين اثنين، ويكون هدفها في الأغلب الحفاظ على الوضع الراهن وليس اكتساب ميزات جديدة، وقلَّما تكون هذه المنافسة منافسة شريفة.
إذاً؛ من الذي يرسم قواعد المنافسة الشريفة؟. على أرض الواقع فإن الإدارة هي المسؤول الأول عن تعزيز بيئة المنافسة الشريفة بين الموظفين من خلال ملاحظة المنافس غير النزيه وردعه ومواجهة الأساليب الملتوية في المنافسة، ومن جهة أخرى فإن الاعتبارات الشخصية للموظفين تلعب دوراً كبيراً في تحديد قواعد المنافسة وشكلها، وإليكم أبرز ثلاث قواعد للمنافسة الشريفة في العمل:
الابتعاد عن الأساليب الملتوية
في كل منافسة هناك خيارات كثيرة مطروحة أمامنا، وغالباً ما يكون أسهلها الإطاحة بالمنافس باستخدام أساليب دنيئة أو ملتوية، خذ مثالاً سباق السيارات؛ بإمكان أحد المتسابقين أن يفتعل عطلاً بسيارة المنافس الآخر ليمنعه من الفوز، أو أن يدبر له مكيدة تجعله يفقد تركيزه أثناء القيادة، لكن ما قيمة الفوز حينئذ؟!.
الابتعاد عن أسلوب الكذب والتضليل والتآمر وإلحاق الأذى الشخصي وغيرها من أساليب المنافسة الدنيئة هو القاعدة الكبرى للمنافسة الشريفة.
طرد الدوافع الانتقامية
إن الدوافع الانتقامية كثيراً ما تكون محركة للسلوك بشكل غير واعٍ، ومن دون طرد الدافع الانتقامية لا يمكن للمنافسة في العمل أن تكون شريفة، وقد يتمكن الراغب بالانتقام من الإطاحة بمنافسه، لكنه غالباً ما يخسر في المنافسة أكثر مما يربح لأنه غفل عن الهدف الأساسي من المنافسة.
قبول الخسارة
كذلك قبول الخسارة يعتبر من أسس المنافسة الشريفة في العمل، فالمنافسة ليست حرباً وإنما تجربة غنية يجب الاستفادة من خسارتها بنفس القدر الذي نستفيد به من ربحها، يجب علينا أن نكون متقبلين للخسارة بل ومن أول المهنئين لشريكنا في المنافسة، لنتمكن من الفوز في الجولة القادمة.
على الضفة الأخرى لا بد من التعرف إلى أساليب المنافسة الدنيئة المحتملة في بيئة العمل، لتجنبها من جهة ولإجادة التعامل معها من جهة أخرى، وأبرز ممارسات أصحاب القبعات السوداء في العمل:
1- إخفاء المعلومات: واحدة من أبرز أساليب المنافسة غير النزيهة إخفاء المعلومات المتعلقة بموضوع المنافسة، وعادة ما تكون هذه المعلومات غير سرية والمفروض أن يطلع عليها جميع المتنافسين، لكن أحد المنافسين يستطيع إخفاءها عن الآخرين، وقد تكون هذه المعلومات هي السبيل لفهم موضوع المنافسة أكثر، أو قد يترتب على معرفتها تجنب أخطاء محتملة.
2- التضليل: على عكس إخفاء المعلومات يكون التضليل من خلال تقديم معلومات غير دقيقة وغير صحيحة بشكل مباشر أو غير مباشر للمنافس من شأنها أن تدفعه إلى ارتكاب أخطاء ما أو العمل بطريقة خاطئة.
3- الإساءات الشخصية، مثل ترتيب الفضائح للمنافس أو وضعه تحت ضغط التنمر أو البحث في تاريخه الوظيفي أو إحاطته بالإشاعات لطرده من المنافسة نهائياً.
4- الوساطة: ومن أساليب المنافسة الدنيئة هو الاعتماد على الوساطة في سبيل تضييع جهود المنافس وإخراجه من دائرة المنافسة دون النظر إلى الأحقية.
5- التآمر والضربة القاضية: من أسوأ أساليب المنافسة الدنيئة هو التآمر على المنافس ليس بهدف إخراجه من المنافسة فحسب بل طرده من العمل وربما يصل الأمر إلى التسبب بعقوبات كبيرة أو محاكمة، مثل تدبير ورطة مالية أو تدبير خطأ مفتعل كفيل بإبعاد المنافس مرة واحدة وإلى الأبد.
ليس سراً أن التعامل مع المنافسة الدنيئة أمرٌ معقد ويضعنا أمام تحديات كبيرة، التحدي الأول مع ذاتنا ورغبتنا بالحفاظ على منافسة شريفة من جهتنا على الأقل بالتزامن مع إغراء التعامل بالمثل، والتحدي الثاني هو النجاة من شرور المنافس الدنيء، والتحدي الثالث هو الفوز بالمنافسة مهما كان شكلها ومهما كانت طبيعتها، وغيرها من التحديات المرهقة.
يمكن تقديم بعض النصائح لمواجهة المنافسة الدنيئة والتعامل مع المنافس غير النزيه:
1- فهم وجهة نظر الإدارة: حيث يجب على كل موظف أن يفهم طريقة تفكير الإدارة فيما يتعلق بالمنافسة بين الموظفين، وكيف تنظر الإدارة إلى المنافسة الدنيئة وتتعامل معها، وما هي الفرص التي تتيحها الإدارة للمنافسة الشريفة، إضافة إلى فهم الآليات التي تتبعها الإدارة لمراقبة المنافسة والحفاظ عليها منافسةً نزيهة.
2- فهم المنافسين: جزء لا يتجزّأ من تحقيق منافسة بنَّاءة هو فهم شخصية المنافس ودوافعه وأهدافه، فعندما نفهم ونتوقع الإجراءات التي قد يقوم بها المنافس وهل ستكون منافستنا معه شريفة أم دنيئة؛ نستطيع الاستعداد للمنافسة بشكل أفضل، يجب أن نبطل عنصر المفاجأة في المنافسة الدنيئة ونحاول دراسة الظروف والأشخاص بشكل جيد.
3- التوثيق الدقيق: من الإجراءات التي تضمن منافسة شريفة هي الحرص على توثيق كل ما يتعلق بالمنافسة، والحذر من وجود أمور غامضة أو غير واضحة، والتأكد من إطلاع الإدارة النزيهة على أي شكوك حول وجود تلاعب في قواعد اللعبة.
4- تحديد الأهداف من المنافسة: فتحديد هدف المنافسة يساعدنا على اتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب، إذا كانت المنافسة مثلاً على خطاب شكر أو شهادة تقدير قد نرغب بالانسحاب من المنافسة غير النزيهة، وإذا كانت المنافسة على منصب شاغر قد نحارب أكثر لضمان قواعد منافسة عادلة ونزيهة.
5- مواجهة المنافس الدنيء: المواجهة مطلوبة لضمان حقوقنا بمنافسة عادلة ونزيهة في العمل، يجب أن نسعى لفضح أي ممارسات دنيئة أثناء المنافسة ويجب أن نطالب بعقاب من يخل بقواعد المنافسة الشريفة، لكن للأسف لن يكون لذلك قيمة إن لم تكن الإدارة مهتمة بإرساء قواعد المنافسة النزيهة كما يحصل في بعض الوظائف الحكومية أو حتى الشركات الخاصة.
6- الأهداف النبيلة تتطلب وسائل نبيلة: كل النصائح التي نقدمها نفترض بها أننا نسعى إلى المنافسة الشريفة، وليس أسهل من الدخول بمنافسة دنيئة باتباع الأساليب الملتوية المغرية والسهلة، لكن يجب أن نتذكَّر أن الأهداف النبيلة تحتاج إلى وسائل نبيلة، وإذا كنت من أنصار الغاية تبرر الوسيلة فلن تحتاج إلى التفكير بالمنافسة الشريفة.
7- الانسحاب من المنافسة: على الرغم أن الانسحاب قد يبدو خياراً جباناً وغير عملي لكن مع وجد إدارة متواطئة مع المنافس الدنيء وغياب كامل لقواعد المنافسة الشريفة بتوجيه من المسؤولين عن تنظيم المنافسة تحقيقاً لمصالحهم؛ فإن الخيارين المتاحين إما الدخول في المنافسة الدنيئة بأساليب دنيئة، وإما الانسحاب من المنافسة مع الحفاظ على راحة الضمير، والخيار لك.
أخيراً... إن المنافسة الشريفة تدعم الرضا الوظيفي وتحقق أهداف المستويات الإدارية المختلفة، لكن المنافسة الشريفة قبل كل شيء خيار شخصي، فحتى في أكثر الأنظمة الإدارية دعماً للمنافسة الشريفة سيجد من اعتاد على الأساليب الدنيئة منفذاً أو ثغرة لاستخدام أساليبه، لذلك تعتبر المنافسة الشريفة خيار شخصي مهما كانت بيئة العمل ومهما كان نظام المؤسسة.