فن النسيان والتحرر من الذكريات المؤلمة
عندما تهجم الأفكار السلبية على عقولنا مصحوبة بالذكريات الصادمة، فإننا نستعيد مشاعر القلق والحزن والخوف، ونشعر بالارتباك والانسحاب من الحاضر أمام ضغط الماضي، وقد تؤثر هذه الذكريات على قعاليتنا واستقرارنا النفسي وأدوار حياتنا المختلفة، وفي هذا المقال نسلط الضوء على طريقة تعامل العقل مع الأحداث المؤلمة، وطرق التفكير فيها، ونعرض نصائح للتحرر من تأثيرها السلبي.
أجريت العديد من الدراسات حول الذكريات، وتوصل العلماء إلى نتائج تفسر سبب قوة الذكريات المؤلمة وصعوبة نسيانها وتجاوزها، ومن أهم الدراسات في هذا الشأن تلك التي أجراها باحثون في جامعة نيويورك ومعهد ريكن الياباني لأبحاث المخ RIKEN Brain Science، ونشرت في دورية Proceedings of the National Academy of Science.
وأرجعت الدراسة سبب قوة الذكريات المؤلمة إلى ما يُعرف بـ"اللدونة الدماغية"، فعند التعرض لصدمة كأن يعضك كلب مثلا فإن عددًا أكبر من الخلايا العصبية في المخ يقوم بإطلاق النبضات الكهربائية في انسجام تام، وتقيم روابط أقوى مع بعضها البعض مما يحدث في الحالات العادية، وهذه الاتصالات القوية بين الخلايا العصبية تجعل الذكريات أقوى.
وتعد هذه النتائج تقدمًا مهمًا في فهم الباحثين لكيفية عمل اللدونة الدماغية، أي قدرة الجهاز العصبي على تغيير رد الفعل حسب المواقف المختلفة، ومن المفترض أن تساعد مرضى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) على تجاوز الذكريات الرهيبة.
وبحسب نظرية هيب في العلوم العصبية والتي تصف آلية اللدونة الدماغية التشابكية، فإن المنطقة الدماغية المعروفة باللوزة المخاطية (amygdala) تسمح للمحفزات الحسية بأن ترتبط وبالتالي تنتج الذكريات العاطفية، وتُختصر النظرية في هذه الجملة: "الخلايا التي تتقد معا ترتبط معا".
هل التفكير العميق والتأمل في الذات ضار أم نافع؟... وهل استرجاع الأحداث وتحليلها سلوك طبيعي أم لا؟
هناك العديد من أنواع التفكير، وفي هذا المقال نسلط الضوء على الفرق بين نوعين لهما علاقة بالذكريات، وهما: التأمل الذاتي Self-reflection، والاجترار Rumination.
عندما نستغرق وقتًا نطرح فيه على أنفسنا أسئلة حول حياتنا وتجاربنا وأهدافنا، فإن هذا يسمى بالتأمل أو التفكير الذاتي، وهو أمر له قيمة كبيرة في الاستفادة من أحداث الحياة، واكتشاف النفس وتطويرها وهي سلوك عقلي يمارسه القادة في رحلة حياتهم.
أما الاجترار لغة فكما جاء في القاموس المحيط: "ما يفيضُ بهِ البعيرُ فيأكلهُ ثانيةً"، وهو سلوك حيواني يُعاد فيه الغذاء من البطن لمضغه في الفم مرة ثانية.
والاجترار النفسي هو إعادة التفكير مرارًا وتكرارًا في شيء ما مصحوبًا بعواطف سلبية وبدون طائل، وغالبًا ما يأتي مصحوبا بفكرة: "ماذا لو"، فهو تفكير يركز على استحضار وتحليل موقف أو حدث بدون التفكير في حل، فالعقل يعمل بنشاط ولكن بلا هدف، كمن يتحرك في مكانه.
وعلى عكس التأمل الذاتي الذي يتم بوعي وقصد، فإن الاجترار كثيرًا ما يحدث رغمًا عن الإنسان، ولا يستطيع التحكم به وإيقافه بسهولة، كأن تتذكر التعليقات السلبية التي قالها لك أحدهم قبل عشرين عامًا.
ويعد الفرق الأكبر بين التأمل الذاتي والاجترار هو في كون الأول تفكيرًا واعيًا بهدف الحل وغير متكرر، أما الثاني فيتسم بالاعتياد والتكرار وغلبة الشعور بالندم وغيره من المشاعر السلبية.
- كن على دراية بعادات تفكيرك: كلما تذكرت الأحداث السلبية كلما أصبح عقلك رهينًا لحلقة صعبة الكسر، لذا فإن الوعي بالظروف التي تهجم عليك فيها الذكريات المؤلمة يساعدك على التغلب عليها.
انتبه جيدًا إلى الأوقات التي يبدأ عقلك في إعادة صياغة واستحضار الأحداث المؤلمة، فهذا الانتباه سيجعلك قادرًا على التفكير في شيء آخر مفيد بشكل أسرع. - عش اللحظة: كن حاضرًا في لحظتك الحالية، لا تركز على الماضي أو المستقبل، وجه وعيك إلى هنا والآن، قد يستغرق الأمر وقتًا حتى تعتاد على العيش في الحاضر ولكن الأمر يستحق التدريب.
- تحكم في انتباهك: تدرب على التحكم في انتباهك، تمارين التركيز تزيد سيطرتك على الأفكار الشاردة التي تفرض نفسها عليك.
- تعلم متى تبتعد: كما في حالات الخطر هناك جرس إنذار، وكذلك عندما تجد نفسك في مواقف تشجع على استحضار المشاعر الأليمة فتعلم أن تفصل نفسك عنها فورًا.
- تحرر: اسأل نفسك سؤالا بسيطًا عندما تهجم الأفكار عليك: هل الاستمرار في التركيز على هذا يفيدني؟، وإذا كانت الإجابة "لا" فاترك الفكرة وتحرر منها.
- تحلّى بعقلية الحل التفكير في مشاكلك ليس مفيدًا إلا إذا كنت تبحث عن حل، أما إطالة التفكير بدون داعي فيرسخ لعقلية المشكلة التي تعتاد على استرجاع الآلام بلا هدف.
- حاصر الأفكار السلبية وخصص وقتًا محددًا لها: ليس معنى التحذير من التفكير الاجتراري ألا نفكرفي الأمور السلبية التي تقع لنا، فالعقل يحتاج فرصة لمعالجة الأشياء التي حدثت في اليوم، ولكن الخلل هو في إطالة هذا الوقت وسيطرته على العقل، لذا خصص 20 دقيقة كل يوم للتفكير فيما حدث وما سيحدث، وعندما تلاحظ أنك تقلق أو تستعيد الأفكار السلبية خارج الوقت المحدد فقل لنفسك: "سأفكر فيها لاحقًا".
إن معرفة أن لديك فرصة للتفكير في موضوع محزن في وقت لاحق يمكن أن يساعدك على تأجيله، والتمسك بالحد الزمني الذي خصصته له سيساعدك على التفكير بشكل أكثر إنتاجية، وفي الوقت نفسه يمنعك من معاقبة نفسك بإعادة استرجاع ذكرياتك المؤلمة مرارًا وتكرارًا. - اشغل نفسك واصرف انتباهك: إن إخبار نفسك بعدم التفكير في شيء ما يمكن أن يأتي بنتائج عكسية ويجعلك تفكر فيه أكثر؛ لذا فإن أفضل طريقة لتشتيت انتباهك هي الانشغال بأمر آخر، مثل التمارين الرياضية، أو الاتصال بصديق، أو القيام بمساعدة أحد، أو ترتيب البيت، أو مشاهدة فيلم أو برنامج مشوق.
- المواجهة النفسية: إذا كانت عادة اجترار الذكريات بحد ذاتها تحتاج إلى السيطرة والحصار، إلا أنه في حالة وقوع حدث صادم بعينه يميل العقل إلى تذكره بالمزيد من مشاعر الألم والغضب والخوف، فإنه قد تنجح المواجهة النفسية.
وتتمثل هذه الطريقة في التفكير في الذكرى المؤلمة حتى تفقد قوتها، وفي المرات القليلة الأولى لهذه المواجهة ستشعر بالغضب والقلق والعديد من الانفعالات السلبية، وهي حيلة دفاعية من عقلك لتجنب الألم بقدر الإمكان، ولكن الكبت وقمع الذكرى يمكن أن يمنحها الكثير من القوة، أو يؤدي إلى ظهورها في وقت لاحق، بدلا من ذلك أخرجها من عقلك، واسمح لنفسك بأن تتذكر ما حدث؛ فالتنفيس جزء من الشفاء. أعد الذكرى حتى تلاحظ انخفاض المشاعر القلقة تجاهها.
ويمكنك التخفيف من أثر الذكرى المؤلمة بأن تستحضرها وأنت في مكان مريح أو وأنت تستمع لموسيقى تحبها، أو أثناء تنزهك في مكان جميل، واشعر بالراحة الحقيقية بتركيز وعيك على أن "هذا الحدث قد انتهى". - التحدث حول الأمر: تحدث مع شخص تثق به أو مع مجموعة دعم حيث يمكنك مشاركة ألمك مع أشخاص آخرين وسماع قصص مماثلة، والتعرف على نصائح من مروا بمثل أزمتك.
- التلاعب بالذكرى المؤلمة: تُحرف ذاكرتنا الأحداث بشكل مستمر، ففي كل مرة نستعيد فيها حدث ما تغيب بعض التفاصيل، وقد تتولد أخرى من خيالنا أو انفعالاتنا، فالعقل يعوّض الثغرات الصغيرة في الذاكرة عن طريق استبدالها بمعلومات خاطئة، وغالبًا ما يؤدي هذا التحريف إلى المزيد من الشعور بالأسى، حيث تؤدي المشاعر السلبية إلى إضافة تفاصيل سيئة أو تضخيمها، وعلى العكس يمكن الاستفادة من طريقة عمل العقل من خلال التركيز على التفاصيل الجيدة، أو إدخال معلومات مختلفة بشكل واعي.
على سبيل المثال: إذا كانت لديك ذكرى مخيفة من الطفولة حيث وقعت في المياه وتعرضت للغرق أثناء رحلة بحرية مع والدك، حاول تغيير الجزء الذي يزعجك من الذكرى، وبدلا من التركيز على إحساس الغرق، ركز على لحظة الإنقاذ والنجاة.
وإذا كانت الذاكرة تغير في الحدث في كل مرة تستعيده فيها، فإن التركيز على المشاعر الجيدة بدلًا من السيئة سيغير الإحساس العام بالذكرى ويفقدها القدرة على إيذائك. - الامتنان والتركيز على الذكريات السعيدة: تميل أدمغتنا إلى استحضار المشاعر السلبية، ولكن تدريب العقل على العكس، والاعتياد على الامتنان يمكن أن يقلل من طغيان الذكريات الأليمة.
في كل مرة تُلح على عقلك ذكرى سيئة كموقف تعرضت فيه مثلا للإحراج والسخرية من الآخرين، استحضر ذكرى مغايرة عن موقف شعرت فيه بالفخر والتقدير. - امضي قُدمًا وشكل ذكريات جديدة سعيدة: العيش في الحاضر، واستحضار مشاعر الامتنان يساعدك على المضي قدما في حياتك والانخراط في أنشطة وأحداث جيدة، ومع الوقت ستتشكل لديك ذكريات جديدة سعيدة، وسيبدأ تأثير الذكريات المؤلمة في التضاؤل، وكلما زادت ذكرياتك الإيجابية، كلما قلت الذكريات السلبية على المدى الطويل.
ويمكن أن يساعدك على هذا زيارة أماكن جديدة، والتعرف إلى أشخاص جدد، وتعلم مهارات جديدة، أو تغيير روتين حياتك بشكل عام، والتخطيط لأحداث جيدة كحفلة مع الأصدقاء، أو نزهة مع الأهل. - الحذر من الإدمان: لا تهرب من عقلك بتناول الكحول والمخدرات، يلجأ البعض إلى مغيبات العقل للهروب من الذكريات المؤلمة، ولكن هذا الهروب يزيد الأمور سوءًا، ويزيد من مشاعر الاكتئاب وتهيج القلق، كما يزيد الإحساس بالعجز والانسحاق أمام الذكريات الأليمة وعدم القدرة على التعامل معها وتخطيها وعيش حياة طبيعية.
واستخدام الكحول والمخدرات لمحاولة نسيان الذكريات السيئة، أو كوسيلة لتجنب أي نوع من المشاعر السلبية غالبا ما يؤدي إلى الإدمان، ويمكن أن يتخذ الهروب أشكالًا إدمانية أخرى، مثل: المقامرة أو إدمان الطعام والجنس، أو إدمان الإنترنت، فتزداد الحالة النفسية والاجتماعية للشخص تعقيدًا.
وختامًا فإنه لا تخلو حياة إنسان من أحداث مؤلمة، ومواقف عصيبة، ولكن هذه الصدمات مع علاجها وتجاوزها يمكن أن تجعل من مر بها شخصًا أقوى وأنضج وأقدر على مواجهة الحياة، بشرط ألا يستسلم لإلحاح الذكريات الأليمة.