طرق تربية الأبناء الصحيحة ومفهوم السياق التربوي
يعتبر البحث عن الطرق التربوية الصحيحة بحثاً معقداً وشديد الحساسية؛ فطريقة تربية الأبناء لا تعتمد فقط على النظريات العلمية أو الأساليب التربوية السائدة، وإنما تتأثر بالسياق التربوي التي تعرَّض له الآباء والأمهات وبتجاربهم الشخصية ووجهات نظرهم في الحياة، هذا ما قد يجعل تربية الأبناء في بعض الحالات أشبه بحقل تجارب، حيث يحاول كل طرف من أطراف العملية التربوية أن يضع فرضياته ويختبرها.
وكي لا تكون تربية الأبناء بهذا الشكل "التجريبي" لا بد من فهم معنى السياق التربوي، والطرق الصحيحة في تربية الأطفال، هذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه في مقالنا.
عادةً ما يتم تحديد جوانب تربوية معينة لدراسة آثارها بشكل منفصل على الأطفال، كقولنا مثلاً أن الصراخ والعنف في التعامل مع الأطفال قد يؤدي إلى ضعف الشخصية، أو قولنا أن الأب البخيل قد يؤدي إلى تعزيز سلوك السرقة عند الأطفال، لكننا مع ذلك نجد أطفالاً تعرضوا للتعنيف وتمكنوا من تكوين شخصية قوية وثقة عالية بالنفس، كما نرى أطفالاً عاشوا في الحرمان من الناحية الاقتصادية لكن سلوكهم يدل على النبل والأمانة، هذا ما نسميه تأثير السياق التربوي.
فأجزاء العملية التربوية المختلفة وامتداد خيارات تربية الأبناء على طول عمر الطفل؛ تتفاعل معاً لتكوَّن الصورة النهائية لشخصية الطفل، فخصائص كل جزء من حياة الطفل منفرداً تختلف عن خصائص السياق التربوي ككل، والآثار التي تترتب على الأجزاء تختلف عن الآثار المترتبة على العملية التربوية ككل.
يمكن إذاً تعريف السياق التربوي أنه اجتماع عناصر العملية التربوية المختلفة وتفاعلها معاً وما ينتج عن ذلك من تأثير على شخصية الأطفال وتحصيلهم العلمي ومنظومة قيمهم الأخلاقية، بالتالي فإن تناسق جوانب التربية مع بعضها البعض يجب أن يخدم تحقيق هدف واضح والوصول إلى صورة تربوية معنية.
لنتعرف أكثر على كيفية عمل السياق التربوي من خلال علم نفس الجشطالت.
هذه النظرية تعتبر واحدة من أهم النظريات الفلسفية التي قدمتها مدرسة علم النفس في ألمانيا عشرينيات القرن الماضي، المعروفة بنظرية الجشطالت أو الغشطالت، وهي النظرية التي اهتمت برؤية السلوك البشري ككل متكامل بدلاً من النظر إلى الأجزاء، وأن دراسة آثار الصورة الكاملة تعطي نتائج مختلفة عن دراسة آثار الأجزاء المنفصلة[1].
وأبرز قوانين الجشطالت أن العناصر المتشابهة تميل إلى الاجتماع معاً في إدراكنا، كذلك نقوم بتجميع العناصر التي تسير في نفس الاتجاه، أوننا نميل إلى الأشكال المغلقة، وأن خصائص الجزء عندما يكون منفرداً تختلف عن خصائصه ضمن المجموعة وغيرها من المبادئ [2].
مثلاً؛ عند النظر لجزء من الوجه بشكل منفصل ستكون له خصائص وصفات مختلفة فيما لو نظرنا إليه في سياق الوجه، فالأنف الذي يبدو جميلاً وحده قد يكون قبيحاً وغير متناسقاً عن النظر إليه مع بقية عناصر الوجه، لكن ما علاقة كل ذلك بتربية الأبناء!.
عند إسقاط نظرية الجشطالت على العملية التربوية يمكن فهم معنى السياق التربوي، حيث يميل الأهل إلى تجميع أجزاء العملية التربوية باتجاه واحد، ومن عناصر متشابهة (الأخلاق مع الدين مع التعليم مع آليات الثواب والعقاب)، وتكون نتائج السياق التربوي العام مختلفة عن النتائج المتوقعة من كل جزء منفصل.
فالصراخ على الأطفال مثلاً في سياق تربوي ما قد يكون منخفض الأثر مقارنة بسياق تربوي آخر، والمكافآت التي يتم منحها للأطفال سيختلف أثرها لديهم باختلاف السياق التربوي، بالتالي فإن ترتيب السياق التربوي بشكل متناسق والنظر إلى نتيجة السياق التربوي نظرة شاملة وكليَّة من شأنه أن يساعد الأهل على الوصول إلى أهدافهم من تربية الأولاد بطريقة صحيحة، وإهمال السياق التربوي لصالح الاهتمام بأحد أجزائه سيؤدي إلى فشل السياق التربوي بسبب تفاعل مكوناته معاً بشكل غير متوقع وغير مدروس.
"لماذا يفعل ابني هذا... لم أربه على هذا الشكل، ليس هكذا!"، هذه واحدة من أكثر الأقوال شيوعاً بين الأهل، فهم يتعرضون للصدمة خاصة في مرحلة المراهقة لأنهم يتفاجؤون بسلوك غير متوقع أو سمات في شخصية أبنائهم كانوا يتوقون لتجنبها وغرس سمات مختلفة تماماً.
لا نبالغ إذا قلنا أن غياب السياق التربوي المنظَّم والمتناسق هو السبب الرئيسي لفشل أهداف تربية الأولاد، فعندما يحاول الأهل مثلاً الاهتمام بالتربية النظرية من خلال الأقوال المباشرة (لا تفعل ذلك أو يجب أن تكون كذا...) دون النظر إلى أهمية النمذجة في التربية ودون النظر إلى أهمية القدوة؛ لا بد أن الأهداف ستكون بعيدة المنال.
أما في حالة رسم السياق التربوي مسبقاً فإن جميع مراحل ومكونات العملية التربوية تعمل معاً وتتفاعل في سبيل تحقيق هدف السياق التربوي العام، فإذا كان الهدف تربية طفل خلوق ومحترم لا بد أن يتم تخطيط السياق التربوي انطلاقاً مما يراه ويختبره الطفل في المنزل، مروراً باختيار المدرسة الملائمة، والأصدقاء المناسبين، ثم الهوايات الملائمة وطريقة تنميتها، وشكل التواصل بين الطفل وأهله...إلخ؛ كل ذلك يطلق عليه السياق التربوي.
من جهة أخرى فإن آثار الجوانب التربوية تكون مرنة أكثر من آثار السياق التربوي، فإذا مر أحد الوالدين بفترة من الاكتئاب جعلته يكون فظاً مع الأطفال سيكون من الممكن علاج آثار هذه المرحلة فيما بعد، أما إذا كان السياق التربوي ككل يقوم على الفظاظة والإهمال العاطفي فإن آثاره ستكون راسخة في شخصية الطفل وسيكون التعامل معها أكثر صعوبة.
كذلك إذا كان أحد الوالدين لا يجيد التعبير عن مشاعره للطفل قد يستطيع أن يعوض ذلك من خلال سياق تربوي داعم، أما إذا كان السياق التربوي بارداً وخالياً من العواطف فسيكون من الصعب تجاوز آثاره السلبية على الأمد الطويل.
أعتقد أنَّنا وضّحنا مفهوم السياق التربوي وعلاقته بتربية الأولاد الصحيحة بشكل جيد، وحان الوقت لننتقل للنقطة الأهم، وهي كيف يمكن رسم السياق التربوي لاختيار الطرق الصحيحة في تربية الأبناء[3]، إليكم هذه النصائح:
ابدأ باكراً في تربية صحيحة
إذا كنت حتى الآن لم تخطط لتربية أبنائك بطريقة واعية وما زلت تعتمد على التربية الفوضوية أو غير الهادفة، يجب أن تبدأ فوراً، وكلما بدأت في وقت باكر بتحديد أهداف العملية التربوية وكيفية تربية أولادك وما تتوقع من هذه التربية؛ كلما حصلت على نتائج أفضل.
حدد أهدافك ورسالتك من تربية الأبناء
لا يوجد نمط أو سياق تربوي صحيح بالمطلق، بل يجب على كل والد ووالدة أن ينظما سياقاً تربوياً خاصاً بهما يلبي تطلعاتهما من العملية التربوية، وذلك من خلال تحديد مجموعة الأهداف (أريد أن أربي طفلاً يحترمني، يثق بنفسه، يجيد التعامل مع الآخرين، خلوق، متفوق...إلخ)، وتحديد الرسالة التربوية (رسالتي أن يكون طفلي فخوراً بتربيته وفخوراً بنفسه وبوالديه) مثلاً.
اهتم بسعادة أطفالك
ما يجب أن ينتبه إليه الأهل في تربية الأبناء أن سعادة الطفل أولوية، فالطفل ليس وعاءً نملأه بآرائنا وأفكارنا وتوقعاتنا، بل هو كيان مستقل وإنسان قبل كل شيء، بناء عليه يجب أن تكون رفاهية الطفل وسعادته جزءاً أساسياً من السياق التربوي، وذلك من خلال[4]:
- كن سعيداً وإيجابياً ومتفائلاً، فالخطوة الأولى في سعادة الطفل أن يرى سعادة والديه.
- اهتم بقدرة أطفالك على تكوين صداقات وعلاقات إيجابية، وساعدهم على التمييز بين أشكال العلاقات المختلفة وأنماطها.
- توقع الجهد وليس الكمال؛ راجع مقالنا عن تأثير توقعاتك من الأطفال على تربيتهم وشخصيتهم.
- عبّر عن مشاعرك تجاههم، ساعدهم على التعبير عن مشاعرهم، راجع مقالنا عن تعليم الطفل كيفية التعامل مع عواطفه.
- شارك أطفالك اللعب، واهتم أكثر بألعاب الأطفال المناسبة.
- حافظ على الأنشطة العائلية المشتركة كتناول الطعام معاً والنزهة والنشاطات المختلفة، دون إجبارهم على نشاط يكرهونه.
راجع تناسق السياق التربوي
تذكر دائماً أن كل عاداتك وأفكارك وسلوكك ونظرتك إلى الأمور وتفاعلك مع المواقف وعلاقتك بزوجتك وأهلك، إلى جانب مكان إقامتك ومستواك المادي وعلاقتك مع الآخرين واختيارك للمدرسة أو النادي لأطفالك؛ كل ذلك يعتبر أجزاءً من السياق التربوي، يجب أن تنظر إليها نظرة شاملة بحيث تتأكد أنها تتفاعل معاً بالشكل الأمثل للوصول إلى تربية الأبناء الصحيحة.
لا تهمل أي جانب من جوانب السياق التربوي
عادة ما يهتم الأهل بجوانب معينة في عملية التربية على حساب جوانب أخرى، نجدهم مثلاً يهتمون بالتحصيل العلمي للأطفال ويهملون العادات الصحية اليومية، يهتمون بتعليم الأطفال العبادات الدينية والالتزام بها ويهملون تعليمهم المنطلقات الأخلاقية لتلك العبادات، يهتمون باحترام الأطفال للآباء أمام الناس ويهملون مشاعر الطفل الحقيقية تجاه أبويه، وهنا تكمن أهمية تنظيم السياق التربوي الصحيح، ليمنح نظرة شاملة ومتوازنة للعملية التربوية.
تحمَّل المسؤولية
واحدة من أهم منطلقات التربية الصحيحة أن يتحمَّل الآباء المسؤولية عن الأخطاء التربوية، فعندما يتصرف ابنك بطريقة خاطئة يجب أن تتحمل أنت المسؤولية وتبحث عن الثغرة في السياق التربوي التي خلقت عنده سلوكاً مرفوضاً، وتذكر أن العقاب لن يكون فعالاً إن لم يكن موظفاً ضمن السياق التربوي، والتنصل من المسؤولية سيكون بلا شك سلبياً على تربية الأبناء ككل.
تربية الأبناء الصحيحة عملية مستمرة ويومية
أخيراً... يجب أن تتذكر أن تربية الأبناء عملية متصلة ومستمرة، لا يمكن أن تتعامل معها كمجموعة من الواجبات نؤديها وننتظر النتائج، بل يجب أن تتفاعل مع الظروف والمتغيرات، وتهتم بالتفاصيل اليومية الخاصة بأطفالك، بنموهم وتطورهم، وتطور العلوم التربوية من حولك، والتجارب الشخصية التي يخوضونها، والمفاهيم التي تعترض طريقهم ويفكرون بها...إلخ، يجب أن تكون مربياً جيداً اليوم وكل يوم وإلى الأبد.
[1] مقال Kendra Cherry "ما هو علم نفس الجشطالت Gestalt Psychology" منشور في verywellmind.com، تمت مراجعته في 23/6/2019.
[2] مقال "مبادئ الجشطالت Gestalt Principles" منشور في interaction-design.org، تمت مراجعته في 23/6/2019.
[3] مقال الدكتور Perri Klass "كيف تكون والداً عصرياً؟" منشور في nytimes.com، تمت مراجعته في 23/6/2019.
[4] مقال ERIC BARKER "كيف تربي أطفال سعداء، عشر خطوات يدعمها العلم" منشور في time.com، تمت مراجعته في 23/6/2019.