مراحل الإبداع الخمسة وتسلسل عملية الإبداع
يعتقد الكثيرون أن الإبداع عملية مشتتة وعشوائية وتأتي نتيجة إلهام ما، لكن الإبداع ليس ميزة.. بل هو عبارة عن سلوك وروتين وعادة منظمة، هناك فرق واحد بين الأشخاص المبدعين فعلياً وأولئك الذين يظنون أنهم مبدعين، فالمبدعون يعبرون عن إبداعهم بالسلوك المبدع، ومن الطبيعي أن تعلق في مرحلة من مراحل أي مشروع إبداعي تعمل عليه، فكيف يمكنك الخروج من نقطة الوقوف للمتابعة مجدداً؟ لأن النجاح ليس وصفة سحرية غامضة، لكنه النتيجة الطبيعية لتطبيق بعض الأساسيات.
هل هناك عجز في مرحلة التفكير الإبداعي؟
لا أحد لديه عجز عن الإتيان بالأفكار، ولا تستطيع القول إن لديك نقص في تلك الأفكار المبدعة، وربما يكون لديك بعض من تلك الأفكار الآن أثناء قراءة هذه الكلمات أو قبل قليل! لأن مرحلة الإبداع الأولى تتجسد بالخطوات التالية:
- توليد الأفكار: تبدأ العملية الإبداعية لكل شيء بفكرة، ومرحلة توليد الأفكار ليست هي الوقت المناسب للحكم على ما إذا كانت الفكرة سيئة أم جيدة، حيث تمتلئ دفاتر الملاحظات وبرامج الكتابة على شاشة الكمبيوتر؛ بأفكار غير قابلة للتنفيذ ربما أو أفكار غير متماسكة، بل وعشرات من البدايات الخاطئة، لكن ما يبدو وكأنه فكرة رهيبة.. يمكن أن يصبح بداية رائعة عندما تراجعها أو تطلع عليها من جديد، والغرض الوحيد من هذه المرحلة، هو الحصول على أكبر عدد ممكن من الأفكار.
- تجسيد الفكرة: هناك احتمالات كثيرة بأن ما لديك، هو فكرة رائعة لا يمكنك تذكرها بعد بضع ساعات أو حتى بعد دقائق قليلة، هذا هو السبب في أنك يجب أن تعتاد على التقاط أفكارك وتدوينها، وإلا فلن تتمكن من الاستفادة منها أبداً، وطالما أن جهاز الكمبيوتر المحمول أو دفتر الملاحظات هي أدوات متاحة لك على الدوام، فإنها تربة خصبة للأفكار الإبداعية، لأن الأفكار تأتي إلينا في أوقات غير مريحة وغير متوقعة، ثم أن عقلك ليس هو المكان لتخزين المعلومات السريعة [1]، بمعنى ستنسى الأفكار بالاعتماد على تذكرك لها فيما بعد، ولهذا السبب يجب عليك بناء عادة تصوير أفكارك وتجسيدها، فلا بد من تفعيل هذا السلوك لديك من خلال التقاط الأفكار والرؤى أيضاً؛ من الكتب والأفلام والمواقف والأشخاص الذين تلتقي بهم، وهناك طرق عديدة لتحفيزك على إتقان هذه الآلية في حصر الأفكار وتذكرها فيما بعد مثل: بناء العقل الثاني (Build a Second Brain)، والثلاثين ثانية (30 second habit)، وغيرها من التقنيات التي سأتحدث عنها في مقال مستقل.
- احتضان الفكرة وتطويرها: تستغرق الأفكار وقتاً طويلاً لتصبح جاهزة، لكن يمكنك اتباع نهج متعمد في ذلك مثل: استخدام ما يعرف باسم نظرية ماكايفر (MacGyver Method) [2]، بحيث لا تفشل في تحقيق نتيجة رائعة، من خلال التوصل إلى أفكار حول ما تريد أن تفعله، وحل المشكلات باستخدام مجموعات بارعة من العناصر للخروج من المواقف الصعبة، وتوضح لنا التقنية أننا جميعاً نمتلك القدرة على حل المشكلات، إذا استطعنا صرف انتباهنا الواعي، وباختصار تتم على الشكل التالي:
1- اكتب سؤال.
2- اتبع نشاطاً يتطلب التركيز؛ شيء مثل: حل الألغاز، وممارسة هواية يدوية.
3- اكتب الإجابة.
تحويل الأفكار الإبداعية إلى نتائج
يحدث أن تتعطل قدرتك على تحويل الأفكار إلى عمل على أرض الواقع من ثم إلى نتائج، بحيث تحكم على النتائج أثناء فترة العمل! في الوقت الذي لا يجوز فيه ممارسة الأحكام على النتائج في هذه المرحلة، إذ يمكنك الرجوع وتعديل الأشياء وتغييرها دائماً، فالاستمرار والبقاء في مرحلة العمل يجعلك عرضة للوهم من خلال وضع معايير تعسفية لعملك، ثم تعتقد أنك غير قادر على الوفاء بها، نتيجة لذلك فلن تفعل أي شيء، وأنت تقوم بعملك لن يكون جيداً الحكم عليه عند البدء بتنفيذ الفكرة، لكن إذا لم تبدأ.. فلن يكون لديك أي عمل يمكنك.. تحسينه!
جزء من العملية الإبداعية هو سدّ ما يمكنك تسميته (الثغرة الأخيرة)، بالتالي ستكون قادراً على إنشاء ما تتخيله، كذلك سترتفع معاييرك وسيتعين عليك سد الفجوة الجديدة التالية، وأهم شيء يمكنك القيام به، هو الكثير من العمل على الفكرة، ومع تقدمك خطوة.. خطوة؛ سيتسع نطاق تفكيرك، وهو ما يسميه الخبراء "عقلية النمو" [3].
المرحلة الثالثة.. سير العملية الإبداعية
إذا كنت تفي بكافة التزاماتك؛ ستستفيد من قوة الاتساق العميقة والانضباط الذاتي في عملك الدؤوب، بحيث تبدأ بإحراز تقدم في فكرتك، ويتم سير العملية الإبداعية كما يلي:
- التركيز على العملية الإبداعية بدلاً من المكاسب: لأن العديد من المبدعين يتورطون لتسليط الضوء على محطات ناجحة خلال هذه المرحلة من العملية الإبداعية! وذلك من خلال نشر أخبار عملهم وتطوراته على مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، والغرق في وهم شهرة أسمائهم وإنجازاتهم وتكريمهم! لكنك تعلم أن هذه الأشياء كلها أشياء ثانوية للعملية الإبداعية، مثلاً: بالنسبة للمؤلف... يكتب بعض الكلمات في الصفحة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، وبالنسبة للموسيقي.. يعزف في قاعة تدريب، وفي أي غرفة فارغة، ولأي شخص مستعد للاستماع إليه؛ بالنظر إلى أن الشيء الوحيد الذي يستطيع هؤلاء المبدعون السيطرة عليه؛ هو العملية الإبداعية أثناء سيرها البطيء، لذا تذكر جيداً أنه هو المكان، الذي يجب أن تركز فيه معظم طاقتك.
- تتبع مسار تقدمك: فالتقدم الواضح يشكل حافزاً كبيراً لعملك الإبداعي، عندما لا تتشتت سلسلة جهودك وتعمل على تقييم أو متابعة ما فعلته حتى الآن؛ يرتفع الدافع للعمل، بالتالي تقوم ببناء زخم أيضاً، وأفضل عمل يتم ليس في البداية أو النهاية، لكن فيما يمكنك تسميته "الوسط الفوضوي للعملية الإبداعية"، وعندما يتعلق الأمر بتتبع التقدم؛ استخدم مقياساً يمكنك التحكم به، بحيث لا يمكنك التحكم فيما إذا كنت تحب ما تعمل عليه أو لا، لكنك تعلم أنك تستطيع التحكم في مقدار ما تفعل، هذا هو المقياس الأساسي، الذي تستخدمه لتتبع تقدم عملك الإبداعي.
- مكافأة الانتصارات الصغيرة: مهما كان شكل العمل الإبداعي الذي تقوم به، ومن خلال عملية تتبع مسار تقدمك فيه؛ لا بد من مكافأة نفسك على الإنجازات والنجاحات الصغيرة التي تحققها من خلال العملية، وليس من الضروري أن تشارك هذا الاحتفال مع أحد، (إلا إذا كان لديك شخص لا بد أن تشاركه هذه النجاحات المرحلية للوصول إلى الاحتفاء بالنجاح الكبير).
الحكم الموضوعي على العملية الإبداعية لا يعني القسوة والتجريح
لقد قمت بتأخير الحكم على نتيجة العمل حتى الآن، لكن لا يمكنك أن تكون قاسياً على نفسك، لذا راجع وقيّم عملك بعين ناقدة لكن لطيفة، وعليك أن تسأل نفسك بعض الأسئلة حول عملك الذي أتممته، فهل تخدم الآخرين بعملك؟ وهل يجب أن تتخلص من بعض الأجزاء؟... يمكن أن تتابع الأسئلة في أي مسعى إبداعي تقوم به، وبالنسبة لآراء الآخرين بعملك فهو مهم، لأنه سيدفعك على تحسين عملك من خلال المسودة الأولى في أي عمل إبداعي، وأي مراجعة لعملك مهمة جداً، لكن كن حذراً حول من هم الأشخاص الذين يقيمون عملك هذا حيث:
1- سيخبرك بعض الأشخاص؛ بأن كل شيء مدهش لتجنب إيذاء مشاعرك.
2- سيشير آخرون إلى كيفية تحسين شيء ما، وقد يكون من الصعب سماع ملاحظاتهم، ولكنها ذات قيمة كبيرة في كثير من الأحيان.
3- بالنسبة للأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنهم يفضلون إطلاق الملاحظات السلبية على عمل شخص لم يلتقوا به أبداً، أو أنهم من معارفك وضمن دائرتك الاجتماعية الحقيقية، لذا لا تأخذ ملاحظاتهم على محمل الجد!
المرحلة الأخيرة في العملية الإبداعية
نشر عملك يمكن أن يكون الجزء الأكثر روعة من العملية الإبداعية، حيث تجبر نفسك على مواجهة الخوف والشك، الذي منعك من البدء بعملك.. في المقام الأول، فماذا لو لم يعجب عملي أحد؟ ماذا لو فشلت؟ ورغم أن هذه المخاوف طبيعية بالمجمل، لا بد أن تفكر بأن كل عمل إبداعي يتعرض للانتقادات السلبية، وإذا كنت مبدعاً للفن؛ سيكون هناك شخص ما يكره علمك وينتقده، لذا يمكنك السعي لإرضاء منتقديك، أو تحديد الجزء الذي لا يعجبهم.. ثم العمل على تطويره للأفضل.
في النهاية.. على الرغم من وجود هذه الخطوات الواضحة للسلوك والعملية الإبداعية، إلا أنها ليست خطية مباشرة، وأنت تعلم أن المسارات المستقيمة والضيقة لا تؤدي لنتيجة مثيرة للاهتمام، فهل تصدق أن العملية الإبداعية هي الفوضى! ستكون في رحلة ذهاب وإياب بين الخطوات وتعديلها حتى ترضى، أو إلغاء بعضها حتى، كما يمكنك اتباع خطواتك الخاصة في العملية الإبداعية، لذا شاركنا إياها من خلال التعليقات.
[1] لا يمكن تخزين الأفكار في دماغك، منشورة على موقع unmistakable creative، تمت المراجعة في: 15/06/2019
[2] بودكاست حول تقنية احتضان الأفكار وفق الكاتب والمنتجب السينمائي لي ديفيد زلوتوف (Lee David Zlotoff) في نظريته ماكايفر (MacGyver Method)، منشور على YouTube، تمت المراجعة في 15/06/2019
[3] مقال ماريا بوبوفا Maria Popova "سرّ النجاح الإبداعي" منشور على موقع: Brain Pickings، تمت المراجعة في: 15/06/2019