تسلط الآباء على قرارات الأبناء
هل نحن بالفعل عاجزون عن فهم أبنائنا واستيعاب خصائص وثقافة عصرهم، أم هم العاجزون عن تقدير عواقب أفعالهم ومشاعر الندم التي سوف تراودهم في المستقبل إذا لم يسيروا وفقاً للطريق التي نحددها لهم؟.
في الحقيقة أن هذه المعضلة لاقت اهتماماً كبيراً في الأوساط التربوية وخاصة بالنسبة للمراهقين وكان الحكم فيها يثير الحيرة إزاء الميل أو التحيز نحو أحد هذين الموقفين دون الآخر، فمن جهة نحن هنا نتعامل مع مراهق لم يصل بعد لمستوى كافي من النضوج الاجتماعي أو النفسي أو الفكري، ومن جهة أخرى هذا المراهق فعلاً له الحق في اختيار قراراته وتحمل عواقبها كما من الجائز في بعض الأحيان أن نكون نحن المخطئون وهو المحق من وجهة نظره.
يمكن شرح مفهوم التسلط الحاصل من قبل بعض الآباء على خيارات وقرارات أبنائهم أنه نوع من التدخل وفرض الرأي حتى في الشؤون الشخصية لهؤلاء الأبناء ومصادرة قراراتهم وحقهم في اختيار ما يشاءون باستخدام السلطة الأبوية، وذلك لعدة ذرائع مثل عدم وعيهم وأهليتهم لاختيار ما يشاءون، ويحدث هذا مع الأبناء سواء في مرحة الطفولة أو المراهقة أو حتى النضوج في بعض الأحيان.
والحياة غنية ومتنوعة في مجلاتها ومواقفها والأشياء التي تفرض خيارات متعددة يجب على الفرد اتخاذ قرارات بشأنها، سواء كان هذا الفرد طفل أو كبير، ذكر أو أنثى، أب أو ابن، وكل هذه المجلات قد يحدث فيها نوع من التسلط من قبل الآباء على قرارات أبنائهم، فمثلاً:
- المواهب والميول والاهتمامات: بدوافع عديدة قد لا تلقى جميع الهويات أو المواهب التي يتمتع بها الأبناء ترحيب من قبل آبائهم، فمثلاً بذريعة أن هذه الأشياء تلهيهم عن دروسهم أو لأسباب اجتماعية وثقافية أخرى التي ترفض بعض أنواع الفنون أو المجالات العلمية باعتبارها لا تناسب الثقافة الاجتماعية السائدة، وفي هذه الحالات جميعاً يحرم الابن من اهتمام والديه بمواهبه وربما تمحى هذه الموهبة وتضمحل مع كبتها وعدم تنميتها.
- الخيارات التعليمية والأكاديمية: أما هذا الجانب فيمكن القول أنه الأكثر تأثراً واهتماماً في ممارسة الأهل سلطتهم على خيارات أبنائهم، وأيضاً لاعتبارات اقتصادية أو اجتماعية ترغب بعض الأسر في توجيه أبنائها لمجالات تعليمية معينة تضمن لهم مستقبل أفضل من وجهة نظر هؤلاء الأهل، غير آخذين بالاعتبار رغبة وميل أبنائهم وقدرتهم على النجاح في هذه المجلات.
- الملابس والشكل: وهنا تأخذ الاختلافات في الثقافة العصرية دورها وتفرض نوع من التناقض بين رأي الأبناء والآباء حول الطريقة التي يختارون ملابسهم أو يعتنون بمظهرهم بها، فالابن يريد أن يحاكي الموضة السائدة بين أبناء عصره والآباء يريدون أن يحافظ ابنهم في مظهره على معايير الأناقة التي يعرفونها، راجع مقالنا عن اختيار الثياب المناسبة للأطفال.
- حرية الحركة والتصرف: سواء في الخروج للتنزه والرحلات والزيارات أو ممارسة رياضة معينة أو الانتساب لمعاهد أو مراكز تناسب رغبات وميول الأبناء، فكل هذه الأشياء لا تلقى دائماً الترحيب والقبول من قبل الآباء لأسباب عديدة كالانشغال عن الدروس أو الابتعاد عن المنزل.
- العلاقات الاجتماعية بكافة أنواعها: حتى العلاقات التي يحاول الأبناء بنائها وتشكيلها مع الآخرين يحاول بعض الأهل تحديدها والتحكم بها مثل اختيار الأصدقاء بالنسبة للطفل والمراهق حتى يبعدوهم عن ما يعرف بصديق السوء، أو اختيار شريك الحياة بالنسبة للناضج وخاصة الإناث وفي هذه الحالة حتى المجتمع قد يفرض رأيه بمعاييره عن الشخص المقبوض للارتباط، وفي الحقيقة تعتبر هذه المسألة بالغة الحساسية فعدم الاختيار الصحيح من القبل الأبناء للأشخاص الذين سوف يتعاملون معهم أو يرتبطون بهم قد يكون له نتائج مأساوية في بعض الأحيان على مستقبلهم.
الأهل دائماً يرغبون بضمان أفضل حياة لأبنائهم، سواء من حيث الأمان أو الصحة أو النجاح التعليمي والمهني والاجتماعي، ومن هنا فهم لا يستطيعون ترك أبنائهم يتصرفون على هواهم ويرغبون في تقنين سلوكياتهم وتحديد تصرفاتهم بحجج وذرائع متنوعة أساسها ضمان مصالحهم، وانطلاقاً من هذه الذرائع يمكن ذكر بعض الأسباب التي تبيح من وجهة نظرهم التسلط على قرارات أبنائهم ومنها:
- ذريعة عدم امتلاك الأبناء للخبرة: أو أنهم لا يدركون مصالحهم ولا يحسنون الاختيار أو اتخاذ القرارات المناسبة في مواقف ومجالات الحياة المختلفة، وهو السبب الذي يدفع معظم الأهل للتدخل في شؤون أبنائهم وفرض آرائهم وقراراتهم عليهم.
- ثقافة الوالدين الشخصية: فالمستوى الثقافي والتعليمي للأهل له أثر شديد في هذه المسألة، سواء من حيث درجة التدخل أو مجاله، فالآباء المتعلمين غالباً ما يتدخلون أكثر في الأشياء المتعلقة بدراسة أبنائهم وخياراتهم التعليمية، بينما يهتم الآباء ذوي التعليم المتوسط والضعيف في مجالات أخرى مثل العادات الاجتماعية.
- فقدان الثقة بالأبناء: أما هذه المسألة فتعتبر من أهم الأسباب وأخطرها، فالآباء في هذه الحالة يقللون من ثقتهم بأبنائهم وقدرتهم على النجاح دون مساعدة أو تقدير عواقب الأمور واتخاذ القرارات والخيارات الأفضل في شؤونهم الشخصية.
- طباع شخصية لدى الوالدين: بعض الأشخاص بطبيعتهم النفسية والشخصية يعتبرون أكثر تسلطاً وتفرداً برأيهم وأقل تقديراً لرغبات وأفكار الآخر أي كان، وهؤلاء يعتبرون أكثر تدخلاً في شؤون أبنائهم ويرون أن هذه المسألة من حقهم وواجبهم.
- الفروق العصرية بين الآباء والأبناء: بعض الأهل قد لا يدركون الفروق بين المرحلة الزمنية التي عاشوا فيها والتي يعيش فيها أبنائهم، سواء من حيث الفروق الثقافية أو الظروف الحياتية التي يعيش فيها هؤلاء الأبناء، فيرون أن أبنائهم مخطئين ولا يحسنوا التصرف.
تحديد وجهة سير الأبناء وتهميش رأيهم في ما يخصهم من خيارات وقرارات كنهج وأسلوب تربوي لا يأتي دائماً بالثمار المرجوة منه، مثل ضمان طاعتهم ووضعهم على الطريق الصحيح بحسب رأي آبائهم والقائمين على تربيتهم، وإنما قد يؤدي هذا لآثار عكسية أسوء من حالة تركهم على هواهم، فقد ينتج عن هذا التسلط تعلم الأبناء التصرف بعناد وعدم الرضوخ لقرارات آبائهم ونصائحهم، وهذا العناد يأتي بأشكال عدة كأن يرفض الطفل كل ما يقوله والديه حتى وإن كان صحيحاً ولا يتعارض مع رغباته.
- التسلط التربوي وضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس عند الأبناء: فالأبناء يجب أن يخطئوا ويتعلموا من خطأهم حتى يكونوا خبرتهم بالحياة، ورؤيتهم أن آبائهم يتخذون جميع القرارات التي تخصهم فقد يصور لهم هذا أنهم غير قادرين على فعل شيء وحدهم وأن كل تصرفاتهم سوف تأتي بنتائج سلبية وبالتالي تضعف شخصياتهم ويفقدون ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم.
- فقدان الرابط العاطفي أو التواصل الفكري: العلاقة بين الآباء وأبنائهم يجب أن تقوم على التفاهم والمحبة المتبادلين، والتسلط في عملية التربية يضعف هذا الرابط حيث يرى الابن أن أهله لا يفهمون رغباته ولا يقدرون رأيه ووجهة نظره.
- التسلط قد ينتج حالات التمرد: كنوع من عدم الرضوخ وإثبات الذات و ردة فعل عكسية قد يتحدى الابن سلطة والديه ويتمرد على جميع أوامرهم ونصائحهم، وفي بعض الحالات قد يفقد احترامه لهم.
- قد يؤدي التسلط للفشل: حيث أن إجبار الابن على خيارات معينة قد تتعلق بدراسته أو مواهبه في كثير من الأحيان يتسبب بفشله في المجال الذي أجبر عليه، فهذا المجال قد لا يتوافق مع ميوله واهتمامه ورغباته أو قدراته.
يبدو التسلط والانفراد بالقرارات الهامة كوسيلة تربوية هو السبيل الأسهل والأسلوب الأضمن، الذي يمكن من خلال أتباعه حماية الأبناء من وهم أفكارهم عن الواقع وقلة خبراتهم في الحياة، وما يفضي إليه هذا وذلك من مخاطر ومساوئ قد يوقعون أنفسهم فيها، ولكن هذه ليست الطريقة الوحيدة ويمكن استبدالها بطرق أخرى قد تضمن تفاعل أفضل من قبل الأبناء مع إرشادات والديهم وبالتالي تحقيق أفضل للغاية المرجوة منها:
- فمن الجيد مثلاً النظر في رغبات الأبناء وخياراتهم: فربما يكونوا على صواب، ففي بعض الأحيان قد يكون الخلاف الحاصل ناتج عن خطأ في تقدير الآباء وليس الأبناء وفي هذه الحالة يجب إعادة النظر بموضوع الخلاف الحاصل، حتى لا يجبر الابن على الخطأ من جهة ولا يفقد تقديره لوالديه وينظر لهما على أنهما مخطئين وغير قادرين على الاعتراف بخطئهم والتمييز بين ما هو صحيح وخاطئ.
- استخدام أسلوب الثواب: فبعض الأشياء أو الصفات و الاستجابات وخاصة في مرحلة الطفولة يمكن تنميتها في شخصية الطفل من خلال ربط قيامه بها بأثر جيد مباشر كالثواب أو المكافئة، فمن شأن هذه الطريقة أن ترسخ في ذهن الطفل أن هذه الاستجابات تعتبر جيدة وقيامه بها سوف يعود عليه بنتائج مرضية.
- ترك حرية التجربة للابن: ليس من الخطأ أن يجرب الأبناء بعض خياراتهم وإن كانت خاطئة في بعض الأحيان ولكن مع شرط ألا تكون ذات نتائج خطيرة وأن تبقى تحت رقابة وعناية الوالدين، فعند ما يدرك أنه مخطأ من خلال تجربته لأي من قراراته سوف يخرج هذه الفكرة الخاطئة من رأسه دون أن يضطر الوالدين إجباره على ذلك، وهذا يضمن عدم تكراره لها وفهم لماذا كان والديه يحاولان ثنيه عنها.
- النقاش والإقناع: وهي وسيلة جيدة بدلاً من التسلط التربوي فحتى لو كان الأبناء مخطئون يمكن خلال النقاش أو طرح الأمثلة والأسئلة إقناعهم بخطأ خياراتهم دون اللجوء لوسائل الكبت والتسلط والإجبار، وهذه الطريقة سوف يكون لها نتائج أفضل على المدى البعيد.
- احتضان الأبناء: من خلال فهم رغباتهم والاهتمام بها، بالإضافة لبناء علاقة عاطفية جيدة معهم تقوم على الصداقة والمشاركة في شؤون المنزل والأسرة، والتأسيس منذ مرحلة الطفولة على قيم تحمل المسؤولية، وبناء الاتجاهات ووجهات النظر المناسبة للأسرة في شخصية الطفل وتعليمه كيفية اتخاذ القرارات الجيدة بدلاً من اتخاذها عنه.
الحقيقة أن موضوع شكل العلاقة بين الآباء وأبنائهم فيما يخص القرارات والخيارات سواء البسيطة أو الهامة في حياتهم، هو موضوع شديد الحساسية والخطورة فالأبناء لديهم الحق في الاشتراك في صنع قراراتهم واختيار ما يناسبهم ويرغبون به ويلاءم خصائصهم الشخصية وثقافتهم العصرية، ومن جهة أخرى لا يمكن للآباء المجازفة بتركهم يتصرفون على هواهم دون رقابة أو توجيه فالكثير من الأمثلة تصور ما قد يؤدي إليه طيش الأبناء وخاصة المراهقين من مآسي ومخاطر على حياتهم ومستقبلهم، وبدلاً من هذا وذلك لا بد من البحث عن الوسائل التي تتيح المشاركة في هذه القرارات بما يضمن راحة الآباء وقبول الأبناء.