كشف الكذب عن طريق لغة الجسد
جميعنا نكذب، وجميعنا نحاول إتقان الكذب بالشكل الأفضل بحيث لا يتم اكتشافنا، ويمكن القول أن هذا هو السبب الذي يجعلنا أكثر رغبة باكتشاف الكاذبين من حولنا ومعرفة صدق الشخص الذي نتحدث إليه، فرغبتنا الداخلية بإخفاء الكذب هي توأم رغبتنا باكتشاف كذب الآخرين!.
وتعتبر دراسة لغة الجسد من أهم دراسات علم النفس الحديث، ولا نبالغ إذا قلنا أن الاهتمام بإشارات وعلامات الكذب في لغة الجسد يفوق كل اهتمام آخر في هذه الدراسة، فهل هناك إشارات حقيقية وقاطعة تكشف الأشخاص الكاذبين؟ كيف يمكن اكتشاف الكذب عن طريق لغة الجسد؟ وما هي طرق كشف الكذب الأخرى؟.
من أقدم التقنيات المستخدمة في اكتشاف الكذب هي مراقبة الحركة والتعابير، وقد تم تصنيف بعض الحركات والتعابير باعتبارها أكثر ما يقوم به الشخص الكاذب أثناء خداعنا، تشمل هذه التعابير والحركات لغة الجسد من الرأس وحتى القدمين، نذكر لكم أبرز علامات الكذب في لغة الجسد ثم نتحدث أكثر عن فاعلية مراقبة لغة الجسد في القبض على الكاذبين.
علامات الكذب في الوجه
1- قراءة لغة العيون لاكتشاف الكذب: إن قضية معرفة الكذب من خلال العيون قضية جدلية أكثر مما تبدو، الشائع أن الأشخاص الكاذبين يتجنّبون الاتصال بالعين ويكثرون من الرفرفة بالجفون، لكن في نفس الوقت قد تكون النظرة الثاقبة والجامدة ومن غير رمشة واحدة من إشارات الكذب أيضاً، ألم تسمع أحداً يقول "يكذب دون أن ترف له عين".
كما يعتبر تحريك البؤبؤ نحو اليمين(يمين الشخص الكاذب) سواء إلى الأعلى أو إلى الأسفل أو بشكل أفقي إشارة من إشارات الكذب المعروفة[1]، إضافة إلى إغلاق العين لأكثر من ثانية، حيث يقوم الإنسان في الحالة الطبيعية بإغلاق عينيه لمدة 0.10 إلى 0.40 من الثانية، فيما يميل الكاذبون إلى إغلاق أعينهم لمدة ثانية كاملة أو أكثر.
2- الفم وعلامات الكذب: يأتي الفم في الدرجة الثانية من حيث الأهمية في كشف الكذب في لغة الجسد بعد العيون، حيث يميل الأشخاص الكاذبون إلى اصطناع ابتسامة مزيفة وسريعة قد تصعب ملاحظتها، كما يعتبر سلوك ترطيب الشفاه باللسان أو العض برفق على الشفة من علامات الكذب، ذلك أن الكاذب يشعر بجفاف في الفم نتيجة التوتر، كما تعتبر تغطية الفم من الإشارات المشهورة وسنتحدث عنها في علامات الكذب في الحركة.
3- التغيرات في العلامات الحيوية: تعتمد أجهزة كشف الكذب الحديثة على مراقبة العلامات الحيوية للجسم، مثل دقات القلب وسرعة التنفس وحرارة الجسم، وبعض هذه العلامات يمكن ملاحظتها من خلال مراقبة الحركة وتعابير الوجه، كتورد الوجنتين أو التعرق، وقلما يمكن رؤية هذه العلامات بوضوح.
علامات الكذب في الحركة
1- تحريك الرأس بسرعة: التلفت الزائد وحركات الرأس السريعة تعتبر من الإشارات الواضحة للكذب، ويعتقد أن الشخص الكاذب يحاول لا إرادياً قطع الاتصال مع الشخص الآخر لكنه يجبر نفسه على العودة، أو أن هذه الحركة تعبير لا إرادي عن الخوف والقلق من اكتشاف الكذبة.
2- التغطية وحركات اليدين: من العلامات الشائعة لكشف الكذب عن طريق لغة الجسد تغطية الفم باليد أو تغطية العنق أو لمس الأنف[2]، يعتقد أن تغطية الفم ولمس الأنف يقصد منه حجب الفم الذي ينطق بالكذب وتغطية جزء من الوجه، فيما تدل تغطية العنق على الشعور بالضيق.
يضاف إلى ذلك لمس شحمة الأذن لعدم الرغبة بسماع ما يقال، ولمس العين أو فركها كتعبير لا إرادي عن عدم الرغبة في رؤية ما يحدث أو تجنب رؤية نظرات الشك من الطرف الآخر، كذلك وضع الإصبع في الفم كما يفعل الأطفال عندما يرغبون بإخفاء شيء ما.
3- الوقوف عند الكاذبين: يقف الكاذبون بطريقة ثابتة إلى حد بعيد محاولين منع جسدهم من الحركة قدر الممكن، لكن على الرغم من ذلك قد يقوم الكاذب بتحريك قدميه أو شبكهما أو تقديم واحدة على الأخرى، وكأنه يريد المغادرة.
لا تقل دلالة الألفاظ وطريقة اللفظ أهمية عن الحركات والتعابير، حيث يظهر الأشخاص الكاذبون عادة ارتباكاً في اللفظ قد يكون أوضح من معظم الإشارات والعلامات الظاهر على الوجه والجسد.
حيث يعاني الكثير من الأشخاص من التردد واللعثمة عند الكذب، كما يميل الشخص الكاذب إلى تفنيد الأمور وشرحها باستفاضة، والتركيز على نقاط غير مهمة لكن شرحها يمنحه المزيد من الوقت[3]، إضافة إلى استخدام عبارات القسم والحلفان أو عبارات التأكيد مثل "صدقني، ما أقوله هو الحقيقية، لأكون صريحاً معك...إلخ".
وبعض الكاذبين يميلون إلى تبديل الأدوار بسرعة واحترافية وإخراج نفسهم من دائرة الخطر من خلال دفع الشخص الآخر إليها، يكون ذلك بتحويل الاهتمام نحو نقطة أخرى تتعلق بالشخص الآخر والتركيز والتشبث في محلات الخلاف التي من شأنها أن تفسد الحديث بأكمله.
ومن الأخطاء اللفظية الشائعة عند الكذاب زلات اللسان، حيث يميل معظمنا لا إرادياً إلى استدعاء الحقيقة أولاً، وقد نفشل في قمعها ومنعها من الخروج، فنقولها أولاً ثم نتراجع عنها[4]، قد لا تكون هذه الحقيقة ذات قيمة لكن التراجع عنها يعني أن هناك محاولة للكذب.
فعندما يبدأ أحدهم الحديث بقوله "عندما كنت نائماً أمس، أقصد عندما كنت أتناول العشاء سمعت صوتاً عالياً...."، قد يكون تراجعه عن حقيقة غير مهمة دليلاً على إخفاء الحقيقة المهمة.
هذا بالإضافة طبعاً إلى محتوى الحديث نفسه والمعلومات والسياق المنطقي للقصة التي يرويها الشخص الكاذب، فالكذب قلما يكون متقناً 100%، ونحن قلما نكون مستعدين لكشف الثغرات المنطقية في الروايات التي يقدمها الآخرون، وهذا السبب الذي قد يجعلنا نكتشف كذبة ما بعد سنوات لأننا تذكرنا تفصيلاً صغيراً في القصة.
كما تكون الكذبة عادة عامة وخالية من التفاصيل الدقيقة، وكلما حاولنا دفع الكاذب نحو التفاصيل ظهرت علامات التوتر عليه أكثر ولم يتمكن من ملأ الثغرات بالشكل الأمثل، فإن لم يقع في فخ الابتعاد عن المنطق أو التناقض، سيقع في فخ تكرار السؤال قبل الإجابة والتلكؤ، وفقدان السيطرة على إشارات الجسد المكبوتة.
على الرغم أن الاهتمام بلغة الجسد بشكل أكاديمي ومن جهة عامة الناس أيضاً يعتبر حديثاً نسبياً؛ إلا أن جذور معرفة الإنسان بأهمية التعابير المختلفة تعود إلى أقدم مما نتخيل، وقد لعبت الفنون المختلفة كالنحت والرسم دوراً كبيراً في دراسة التعابير الإنسانية المختلفة، لكنها اهتمت بالتعابير الأساسية كالحزن والغضب والفرح والفخر...إلخ.
في مرحلة لاحقة اهتم كل من الفيلسوف فرانس بيكون في القرن السابع عشر[5] والفيلسوف تشارلز داروين في القرن الثامن عشر[6] بملاحظة ودراسة لغة الجسد والتعبير أكثر، حتى أن وصلت دراسة لغة الجسد بشكل أكاديمي إلى أوجها في القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
وفي سبيل فهم لغة الجسد بالشكل الأمثل لا بد من ذكر ثلاث نقاط مهمة حولها:
1- لغة الجسد نوعان، الأول عام ومشترك بين جميع البشر كتعابير الوجه الرئيسية في حالات الغضب أو الحزن مثلاً (اقرأ مقالنا عن قراءة مشاعر الآخرين)، والثاني مكتسب يختلف من ثقافة إلى الأخرى، وقد يصل هذا الاختلاف إلى التناقض، فالإشارة التي تعني العهد أو الوعد في ثقافة ما، تعني عكس ذلك تماماً في ثقافة أخرى.
2- لغة الجسد تقرأ ولا تكتب: أي أن دراسة لغة الجسد تهدف لفهم التعابير والإشارات المختلفة وتحليلها، لكن بمجرد محاولة اصطناع هذه التعابير فإنها تفضح نفسها بنفسها، وهذا أحد الأخطاء الشائعة في التدريب على التواصل والإلقاء، حيث يطلب من المتدربين تنفيذ واصطناع إشارات معينة، فيما الأجدى دائماً هو تحريرهم من الخوف والتوتر والارتباك الذي يجعلهم جامدين أو كثيري الحركة، اقرأ مقالنا عن فن الخطابة والإلقاء.
3- لا تحمل لغة الجسد دلالات قاطعة دائماً: على الرغم من وجود العديد من الدراسات التي ترصد تعابير معينة وحركات معينة وصفات مستقرة في الشخصية يمكن أن يكشف عنها الشكل الخارجي؛ لكن الحقيقة الثابتة حتى الآن أن لغة الجسد ليست دقيقة دائماً بما يكفي، فبعض إشارات لغة الجسد تحمل دلالات متداخلة يصعب الفصل بينها، الجمود في حركة الجسد مثلاً قد يدل على الخوف أو الكذب وقد يكون طبيعة ثابتة في الشخص وقد يدل على كبت الغضب، لنرى إن كانت علامات وإشارات لغة الجسد كفيلة باكتشاف الكذب فعلاً؟.
على الرغم من السمعة الجيدة للغة الجسد في كشف المشاعر الحقيقية للإنسان، لكن قدرة الإنسان على قراءة التفاصيل الدقيقة للغة الجسد ليست قوية كما نعتقد، بل أن معظمنا سيتعرَّض للخداع والكذب حتى وإن حفظ إشارات الكذب في لغة الجسد عن ظهر قلب (إن كنت ترغب في معرفة أسباب تعرضنا للخداع باستمرار اقرأ مقالنا بعنوان لماذا نتعرض للخداع وكيف ننجو من المخادعين).
وتعتبر تقنيات كشف الكذب الأخرى مثل مراقبة الحديث والتركيز على التفاصيل وطلب إعادة سرد القصة بالعكس من النهاية إلى البداية أكثر فاعلية من قراءة لغة الجسد[7].
العميل الخاص في مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي FBI جو نافارو Joe Navarro يرى أن اكتشاف الكذب والخداع أمر صعب للغاية، ويؤيد الرأي القائل أن فرص اكتشاف الكذب بشكل ذاتي تشبه رمي عملة معدنية في الهواء، لا يمكن التنبؤ بكيفية سقوطها وعلى أي وجه ستكون، أي أن احتمالات اكتشاف كذبة ما هي ذاتها احتمالات الفشل في اكتشافها 50/50.
كما يضيف نافارو أن علامات وإشارات لغة الجسد التي يعتقد أنها تكشف الكذب هي ذاتها العلامات والإشارات لكثير من الحالات الانفعالية والشعورية التي قد لا ترتبط بالكذب، فضلاً أن الباحثين الذين صنفوا هذه الإشارات ودافعوا عنها لم يقوموا بأبحاثهم بظروف واقعية تجعل من النتائج قاطعة[8].
ويضرب نافارو مثالاً، يقول أنّ الشرطة عندما تقوم باعتقال رجل مخمور ومقيَّد من بيته وحولهم ثلاثة أطفال يصرخون كي يتركوه، لن تكون لغة الجسد فعالة لاكتشاف الكذب أثناء التحقيق معه، كذلك الأمر عند التحقيق مع شخص في المطار عاد للتو من رحلة طويلة استغرقت عشر ساعات، والملاحظات التي يتم تدوينها في دراسة تجري على طلاب جامعة يعرفون غالباً هدف الدراسة، لا يمكن اعتمادها عند التحقيق مع مجرم مستعد لإخفاء المعلومات.
الخلاصة أن أحداً منا لن يكون مستعداً بما يكفي لاكتشاف الكذب من خلال لغة الجسد لأننا لا نرغب أن نعيش حياتنا العادية كمحققين متيقظين يبحثون عن مخادع، كما أن لغة الجسد على الرغم من السمعة الكبيرة ما تزال عاجزة عن الكشف اليقيني عن الكذب، فالابتسامة الساخرة أو المزيفة قد تعني الازدراء وليس الكذب، وحركات العين قد تكون نتيجة ارتباك مع قول الصدق، وتغير العلامات الحيوية قد يكون نتيجة التوتر من قول الحقيقة!.
لذلك فإن استخدام لغة الجسد في كشف الكذب قد يكون مفيداً أحياناً، لكن لا يمكن الجزم أن كل من وضع يده على أنفه أثناء الحديث كاذب، أو أن كل من أغمض عينه لفترة أطول من المألوف هو كاذب، وعلى وجه العموم باستخدام لغة الجسد أو غيرها من الوسائل وحتى أكثرها حداثة وتطور من الناحية التقنية، ستبقى فرصة اكتشاف الخداع والكذب كفرصة توقع على أي جهة ستسقط العملة المعدنية في لعبة الملك والكتابة.
[1] مقال Rachel Gillett and Samantha Lee "كيف يمكن أن تعرف أن شخصاً يكذب عليك من مراقبة وجهه" منشور في businessinsider.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[2] مقال Nick Babich "كيف تكتشف الكذب: لغة الجسد" منشور في medium.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[3] مقال Áine Cain and Rachel Gillett "إحدى عشرة علامة قد تعني أن أحدهم يكذب عليك" منشور في businessinsider.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[4] مقال Candice Jalilli "كيف تعرف أن أحدهم يكذب من خلال تعابير لغة الجسد" منشور في time.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[5] مقال "تاريخ لغة الجسد: رائد التجريب الفرنسي بيكون" منشور في all-about-body-language.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[6] مقال "أصل لغة الجسد في التواصل" منشور في study-body-language.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[7] مقال Kendra Cherry "كيف تتعرف على العلامات التي تشير أن شخص يكذب عليك؟" منشور في verywellmind.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.
[8] مقال Joe Navarro "الحقيقة حول كشف الكذب" منشور في psychologytoday.com، تمت مراجعته في 22/7/2019.