مفهوم الحب والصداقة والخيط الرفيع بينهما
على الرغم أن الفروق بين علاقتي الحب والصداقة ليست كثيرة لكنها بلا شك فروق عميقة، وقد شكَّل تفسير علاقة الحب محور اهتمام الإنسان على مدى العصور وما يزال، فيما تعتبر علاقة الصداقة من العلاقات المفهومة والمفسرة إلى حد بعيد، لكن الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحب والصداقة ما زال غامضاً غريباً وصادماً أحياناً، اللحظة التي تتحول عندها مشاعر الصداقة إلى مشاعر حبٍّ وغرام، أو إمكانية الرجوع خطوة إلى الوراء في علاقات الحب لتصبح مجرد صداقة.
في هذا المقال نحاول معاً أن نبحث عن الخيط الذي يفصل بين الحب والصداقة، نحاول أن نفسر أكثر مفهوم الحب ومفهوم الصداقة والفرق بينهما عند الرجال والنساء، كما نحاول أن نجيب عن واحد من أكثر الأسئلة تعقيداً، هل يمكن أن يتحول الحب إلى صداقة؟
لنتفق أولاً أن إيجاد تعريف جامع قاطع للحب أشبه بمحاولة القبض على السحاب!، على مدى العصور ناضل المفكرون والفلاسفة والشعراء ومن بعدهم علماء النفس وأطباء المخ والأعصاب علَّهم يصلون إلى التعريف المنشود، وكل منهم عرض ما توصل إليه في مجال اختصاصه أو من وجهة نظره، لكن حتى بجمع ما توصلوا إليه لن يكون يسيراً استخلاص تعريف واضح وحقيقي، فالغامض في مشاعر الحب أكثر مما هو واضح بكثير، وتداخل هذه المشاعر مع جميع المشاعر الإنسانية يجعله مزيجاً معقداً ومجنوناً!.
هذا بالضبط ما جعل التعريف المثالي للحب أنه مجموعة معقدة من المشاعر القوية والمتداخلة كمشاعر الإعجاب والاحترام والشهوة الجنسية والمودة والحماية والأمان و...إلخ، إضافة إلى التفاعلات الكيميائية في الدماغ التي تولد شعوراً مسكراً من الرضا واللهفة[1].
وأما الصداقة؛ فهي وإن كانت مشاعر داخلية عميقة تربطنا بالآخرين لكنها أيضاً تمتلك بعداً اجتماعياً يميزها عن الحب، ويمكن القول أن الصداقة هي العلاقة الاجتماعية التي تجمع بين شخصين بناء على معرفة غالباً ما تكون عميقة ومتنامية[2]، وتلعب علاقة الصداقة دوراً كبيراً بالاندماج الاجتماعي والصورة الذاتية، قد يكون أكبر من الدور الذي تلعبه العلاقات العاطفية أو يوازيه، وفي الفقرات القادمة قد نستطيع تحديد الفروق بين الحب والصداقة بشكل أفضل.
في الواقع ما يربط الحب بالصداقة أكثر بكثير مما يفصلهما عن بعضهما، فنقاط التشابه بين العلاقتين هي التي تجعل تفاعلهما موضوعاً مثيراً للجدل، وتثير عاصفة من الأسئلة حول إمكانية تحول الحب لصداقة أو العكس، بل أن البعض يعتقد أن الصداقة بين الجنسين لا يمكن أن تكون إلا مقدمة للعلاقة العاطفية أو الحب.
لنتحدث قليلاً عن الفروق الأساسية بين الحب والصداقة، وكيف يمكن تمييز ما يفصل بينهما قبل أن ننتقل إلى الأسئلة الأكثر حساسية:
- الصداقة علاقة ذات تاريخ
أول ما يمكن الحديث عنه في الفرق بين الحب والصداقة أن الصداقة غالباً ما تبنى على مدى زمني أطول ومن خلال مجموعة أكبر من التجارب والمواقف المشتركة بين الصديقين، فالانجذاب نحو شخص آخر لا يكفي لنقول عنه صديقاً، لكنه قد يكون مقدمة سريعة وقصير للوقوع في الحب.
هذا لا يعني بطبيعة الحال عدم وجود علاقات حب تبنى ببطء وروية وعلى مدى طويل، لكنها في هذه الحالة ستمر بمرحلة الصداقة قبل أن تصبح حباً!. - الحب له أعراض واضحة
فيما تبدو الصداقة اعتيادية بالنسبة لمعظمنا، تعارف وإعجاب متبادل ثم نشاطات مشتركة وعلاقة أعمق فأعمق، يبدو الحب صادماً أكثر ومفاجئاً، حيث تظهر للحب علامات جسدية لا يمكن تجاهلها مثل تغير نظام دقات القلب والشعور بالتوتر وربما التعرق وغيرها من العلامات التي تنتج عن التفاعلات الكيميائية المصاحبة للحب، فضلاً عن شعور الغيرة على الحبيب ومشاعر الشوق واللهفة التي تعتبر أعراضاً مميِّزة للغرام. - الصداقة أكثر عقلانية من الحب
يتميز الحب بمشاعر قوية تجعل الإنسان أكثر اندفاعاً وأحياناً تجعله يقوم بأفعال مجنونة وحمقاء في سبيل الحب، فيما تتميز الصداقة بمنح الإنسان فرصة أكبر للتفكير قبل القيام بأفعال تتعلق بالصداقة، بغض النظر إن كان هذا التفكير سينتهي بأفعال عقلانية أم مجنونة!.
من جهة أخرى يجعلنا الحب نتخذ مواقف غريبة وغير مفهومة حتى بالنسبة لنا، في علاقات الصداقة نستطيع معرفة أسباب ما نقوم به بشكل واضح، فإذا وقع شجار بين صديقين يستطيع كل منهما غالباً تحديد موقفه ودوافعه، فيما تبدو شجارات الأحبة بلا أهداف وبلا دوافع خاصة في المرحلة الأولى، لنقل أن الدبلوماسية الإيجابية تطغى على علاقات الصداقة السوية، فيما يعتبر الحب حرباً باردة!. - الحب له مستقبل
الصداقة تنشأ بين شخصين بصفتهما شخصين مستقلين، مشاريعهما المشتركة قد تكون نزهة أو مشروع تجاري أو نقاش ما، أما الحب فهو ما يجعلنا نفكر بمستقبل مشترك، ونضع خطة للأيام المقبلة، فالأصدقاء لا يسألون أنفسهم عن مستقبل الصداقة لأنها ستكون على ما هي عليه الآن إن لم يحصل ما يعكر صفوها أو يجعلها أعمق، وأما العشاق فسؤالهم الدائم "ماذا بعد؟". - الصداقة حب بلا شهوة
التشابه بين مشاعر الحب والصداقة يجعل البعض يقول أن الجنس والشهوة هو أقصى ما يفصل الصداقة عن الحب، لذلك يمكن القول أن الصداقة حب بلا شهوة وبلا جنس، فالشهوة الجنسية الكامنة وراء الانجذاب العاطفي تلعب دوراً كبيراً في تكوين علاقة الحب وتغذية هذه المشاعر. - الحب أقل أريحية في بدايته
معظمنا لا يهتم كثيراً كيف سيبدو أمام أصدقائه، من جهة لأنهم يعرفونه حق المعرفة ولن يضطر للتصنع أمامهم، ومن جهة أخرى فهو لا يعمل على لفت انتباههم لأنهم أصدقاء على أية حال، الحب في بدايته يدفعنا إلى الاهتمام أكثر بمظهرنا وبطريقة كلامنا وصورتنا العامة لنلفت انتباه الطرف الآخر، ربما يقل اهتمامنا لاحقاً بهذه الأمور مع تطور العلاقة، لكن هذا الاهتمام يترجم فرقاً من الفروق بين الحب والصداقة.
معظمنا يدرك ضمنياً الفرق بين الحب والصداقة ويعلم تماماً من هم أصدقاؤه ومن هو الشخص الذي يحبه ويمتلك نحوه مشاعر رومانسية، لماذا إذاً نتحدث عن شيء ندركه جميعاً دون الحاجة لكل هذا الشرح والبيان؟!
في الواقع يظهر السؤال الغريب "ما الفرق بين الحب والصداقة؟" عندما تتطور علاقتنا بأحد الأشخاص بشكل ما، عندما نشعر أن صديقاً يبدو لنا أكثر من مجرد صديق، أو أن حبيباً يبدو لنا أقل من حبيب، وعندما نريد أن ننتقل بعلاقتنا مع صديق إلى مرحلة الحب، أو ننهي علاقة الحب دون أن نخسر الصداقة.
ولنفهم أكثر هذه الجدلية بين الحب والصداقة لا بد أن نعود إلى مفهوم الصداقة بين الجنسين، حيث لم يكن الحديث عن تطور الصداقة إلى حب أو عن تراجع الحبيب إلى مرتبة الصديق وارداً قبل عقود قليلة، فكان الأصدقاء من نفس الجنس وفي مكانهم الواضح، والحبيب أو العشيق في مكانه المعروف والمعلوم، لكن مع ظهور مفهوم الصداقة بين الجنسين كاستجابة اجتماعية لتحديات العصر الحديث بدأت الحيرة في التمييز بين المشاعر تجاه الجنس الآخر.
لتعرف أكثر عن هذه النقطة بالتحديد يمكنك قراءة مقالنا عن تحليل مفهوم الصداقة بين الجنسين وتطوره، حيث أظهرت الأبحاث أن معظم الرجال لا يدركون مفهوم الصداقة بين الجنسين، وينظرون إلى الصديقة أنها حبيبة محتملة، فيما تكون النساء أكثر ميلاً إلى التمسك بمنطقة الصداقة مع الرجال لتضمن أمانها الاجتماعي عموماً وفي مكان العمل على وجه الخصوص.
الطريقة اللطيفة لإنهاء العلاقات العاطفية هي الاستدارة إلى منطقة الصداقة، إنها محاولة شائعة لجعل الانفصال لطيفاً، وأقل كسراً للمشاعر، لكنها على أرض الواقع طريقة قلما تنجح.
فتور المشاعر بين العاشقين وتراجع الشغف واللهفة وغياب الانجذاب الجنسي والعاطفي المميز لسبب أو لآخر؛ جميعها أسباب وجيهة لانهيار علاقة الحب، لكن مع عدم وجود ما يدعو إلى فقدان الاحترام فقد تكون الفرصة متاحة للحفاظ على علاقة صداقة بعد الانفصال، وإن كنا نعتقد أنها ستكون أكثر رسمية مما يتمناه الطرفان.
هناك الكثير من الأسباب التي تجعل العودة من منطقة الحب إلى منطقة الصداقة أمراً معقداً وصعباً وإن لم يكن مستحيلاً، منها مثلاً أن المحيط الاجتماعي قد لا يتقبل فكرة الصداقة بعد الانفصال ويعتبرها نوعاً من الاحتيال، كذلك قد لا يرغب أحد الطرفان بلقاء شريكه السابق وما يحمله معه من ذكريات جيدة أو سيئة، كما أن الصداقة بين حبيبين سابقاً قد تقف عائقاً منيعاً في وجه العلاقات العاطفية الجديدة في حياة الطرفين.
هذه الأسباب وغيرها تجعل من الصداقة بعد الحب أمراً شديد التعقيد وبعيد المنال، لكن في نفس الوقت تبقى هذه الطريقة اللطيفة بالانفصال هي الأفضل، دون شجار أو إهانات ودون أن يفقد الطرفان احترامهما لبعضهما.
أخيراً... حصول الجنسين على فرص متكافئة في التعليم والعمل والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية المختلفة خلق معضلة الصداقة بين الذكر والأنثى والفرق بينها وبين الحب أو الانجذاب العاطفي، وتبلغ هذه الحيرة أوجها في شريحة المراهقين والشباب، لكن معظمنا يستطيع أن يفصل بين هذه المشاعر بعد خوض تجارب عاطفية واجتماعية مختلفة.