قوة قول القليل وفن اختيار الكلمات
خير الكلام ما قلّ ودلّ... قول معروف مأثور؛ يحدد نقطة ارتكاز مقالنا هذا، لكن ما هي العبرة في قول القليل من الكلام؛ في زمن التواصل الاجتماعي والثرثرة الافتراضية؟ كيف يمكن أن يحدد عدد الكلمات والجمل، قوة موقفك؟
ماذا تتعلم من القدرة على قول القليل من الكلمات؟
هل مررت بموقف ما.. دفعك إلى هذر الكثير من الكلمات والجمل غير المترابطة، التي أضاعت فكرتك الأساسية؟ سأوضح بمثال.. أنت تعمل كمندوب لشركة تقدم خدمات إعلانية لعملاء، هم غالباً من الشركات الضخمة، أي أنهم يقابلون يومياً عشرات المندوبين أمثالك؛ جاء موعدك مع أحد مدراء أو أصحاب هذه الشركات، والذي لا يمكن أن يملك من الوقت لك؛ أكثر من دقائق معدودة، فماذا تفعل؟ كيف تروج لفكرتك أو منتجك؟ هل تسهب في الكلام وتشرح وتضيع الوقت.. في محاولة للفوز بعميل دسم؟! أم أنك يمكن أن تقول جملتين؛ واقعيتين صادقتين.. تعبّران بالفعل عما تستطيع تقديمه لهذا العميل؟ فماذا تختار؟
من المواقف التي تخجلني بيني وبيني... أنني أضعت العديد من الفرص الهامة، من خلال الإسهاب في الكلام، على الرغم من قدرتي على تلخيص فكرتي بجملتين ربما! (لن أخوض الآن في قصص فشلي)، لكن دعنا نفكر بمنطقية؛ كيف للكلام القليل والموجز والصائب؛ أن يساعدنا على تحقيق خطوة ناجحة، وإن لم تكن كذلك، على الأقل تضعنا في موقف قوي، يزيد من ثقتنا بأنفسنا مستقبلاً؟ ماذا نتعلم من قلّة الكلام؟
أهمية وفوائد قلة الكلام
- تتعلم المزيد من خلال الاستماع: في اجتماع يشارك فيه شخص غاضب أو أكثر في الكلام؛ لن يضيف لسانك الناطق أي زخم على الموقف! لكنك وبمجرد الإصغاء لفترة وبما فيه الكفاية (بطبيعة الحال ستسمع الحديث حول المشكلة يتكرر)؛ عندما يحين الوقت.. قل جملة أو كلمات قليلة وبوضوح حول هذه المشكلة، ثم دع الصمت يفرد حضوره على هؤلاء الغاضبين... للتفكير بكلامك القليل، على سبيل المثال.. أنت متواجدة في مكان العمل، واحتد النقاش بين عدد من السيدات الغاضبات، حول قدرة أنثى برج الثور على كشف خيانة الشريك وقدرتها على تحويل حياته إلى جحيم دون أن تخسره! (المثال ربما يبدو سطحياً للبعض، لكنه الأقرب إلى ما نعانيه من ثرثرة هذه الأيام).. المهم أنك تصغين (ولا نقل مرغمة، حيث يمكنك المغادرة لبعض الوقت)، لكنك تصغين وجيداً.. تصمتن قليلاً عندها يمكنك أن تقولي جملة أو جملتين: "هل يصدف أن أغلبكن من سيدات برج الثور؟! لا أعتقد بأن المشكلة تتعلق بأسباب فلكية".
- لا معنى للاجتماعات الطويلة: الإنتاجية الجيدة أفضل بكثير من اجتماعات ممتدة لوقت طويل بلا نتائج، حيث لا يكون الشخص النزيه والصادق مركزاً للاهتمام! وتصبح الكفاءة وإدارة الوقت هي محور التركيز عندما لا يكون الهدف هو الإنتاجية، بينما يجب أن تكون النتيجة من اجتماع مهما طال وقته، هي الحصول على حلّ لمشكلة أو إجابة أو نتيجة، مثلاً.. يناقش زملاؤك الغاضبون في اجتماع طويل قضية قصر إجازات العمل السنوية المأجورة؛ فهل يُفضل توقيع عريضة جماعية، تحدد المشكلة وطريقة حلّها وتقديمها مباشرة إلى مجلس الإدارة؟!
- الاجتماعات القصيرة تحقق قيمة عالية: عندما يكون الوقت للاجتماع قصيراً؛ تكون أكثر قدرة على الوصول إلى لبّ القضية بشكل أسرع وتجاهل المجاملات والقصص غير الضرورية وإضاعة الوقت بشكل عام، لأن الاجتماعات القصيرة تعني التركيز، بالعودة إلى مثالنا السابق، سيكون الاجتماع القصير فرصة للنطق بالحلّ النهائي لمشكلة إجازات الموظفين السنوية المأجورة، بمعنى تعزيز الانتماء الوظيفي بالاستجابة لمطالب الموظفين وحقوقهم.
- قول القليل يعكس القوة: سوف ينتظر المجتمعون؛ الشخص الذي لم يقل شيئاً، وهذا ما يفعله رجال الأعمال! لأن قول جملة أو اثنتين يجبر الحاضرين على الالتفات إليك، وهذا يحمل قوة كبيرة يمكنها حل بعض أكبر التحديات التي نواجه.
- الصدق: من المسلّم به أهمية الصدق في أي اجتماع أو نقاش، لكن عندما يتم التعبير عنه بشكل صحيح، لأنه يذكر الجميع بالنقطة المهمة للتجمع أو الحديث، ومهما ظننت أنه من المبالغ الحديث عن الصدق في ظل النفاق الاجتماعي المستشري في بيئات العمل والعلاقات الإنسانية الحالية؛ إلا أن الشفافية مثيرة للآخرين ويقدرها الناس، بشكل أكثر مما تتصور.
- كسر الصورة النمطية: قول القليل والصادق، هو ما يعني تغيير مجرى اجتماع أو نقاش أو جلسة لترويج سلعة أو مُنتج، وكسر الصورة النمطية وتعزيز التفكير خارج الصندوق وبشكل مختلف عما اعتاد الأخرون سماعه، كما تثير لدى الآخرين تعاطفاً وقدرة على التفكير من زاوية مختلفة، حتى لو أثرت كراهية أو غيرة ضدك، فإنها خطوة ناجعة في نموك وتميزك كفرد.
- بلاغة لغة الجسد: إن لغة الجسد لدى هؤلاء الصامتين؛ تعد انعكاساً دقيقاً لكيفية سير الاجتماع، قد لا يتكلم الأشخاص الذين يجلسون في صمت أي كلمات، لكنهم يخبرونك بما يفكرون به، من خلال طريقة جلوسهم أو وقوفهم.
تشكل الكلمات وجودنا بأكمله، لكن ماذا عن قدرتنا على استخدامها لتغيير حياتنا للأفضل؟ فكلماتنا هي وسيلة للتعبير عن تجاربنا ومشاركتها مع الآخرين، وقد لا تدرك التأثيرات بعيدة المدى للكلمات، التي تستخدمها بشكل يومي، لأن كيفية حديثك إلى نفسك تؤثر بشكل مباشر على حياتك؛ إذا كان حديثك الداخلي سلبي، فمن المحتمل أن يكون حديثك مع الآخرين سلبي أيضاً، بحيث يمكنك عن طريق تغيير مفرداتك؛ تغيير طريقة تفكيرك، وكيف تشعر وتعيش أيضاً [1]، لذا اجعل مفرداتك الداخلية أكثر إيجابية، بمعنى تعزيز قوة استخدام كلماتك بوعي لتحسين وتغيير حياتك، من خلال تذكر النقاط التالية:
- هناك مشكلة في اختيار كلماتنا المعبّرة عن عواطفنا، تكمن هذه المشكلة في أننا "لا نختار كلماتنا بوعي لوصف عواطفنا!"، وعندما نختبر العواطف المحزنة، فإننا نعود بلا وعي إلى مفرداتنا المعتادة، والكلمات التي تعبّر عن تجربتنا تصبح هي تجربتنا.
- للكلمات تأثير كيميائي حيوي على الجسم، في اللحظة التي تستخدم فيها كلمة سلبية مثل: "مدمّر"، سينتج تأثير كيميائي حيوي مختلف تمام عما لو قلت: "أنا محبط قليلاً"، وليس من الصعب ملاحظة تأثير اللغة عندما نعبّر عما نشعر به عندما يتحدث إلينا الآخرين، مثلاً إذا قال لك أحد ما: "أعتقد أنك مخطئ".. بدلاً من: "أنت تكذب"؛ فهل سيكون لديك استجابة كيميائية مختلفة لتلك العبارة البسيطة؟، وهكذا.. تحدث نفس العملية الدقيقة بالكلمات التي نستخدمها للتحدث إلى أنفسنا، لكننا للأسف.. أقل وعياً بالتأثير القوي للكلمات!
- يمكن أن تستفيد من قوة الكلمة في وصف مشاعرك من خلال قول القليل؛ مثلاً قدمت مع أحد زملائك فكرة لمشروع واعد في الشركة التي تعملان معها، ثم تم رفض فكرة المشروع وخرجتما منزعجين من الاجتماع، كيف يمكن أن يختلف ردّ فعل كل منكما على الموقف المزعج من خلال الكلمات؟ قد يغضب أحدكما ويبدأ باللغو والحديث بلا طائل فما حدث قد حدث، بينما الآخر يبدو منزعج قليلاً، لكنه لا يقول الكثير! قد يسأل الغاضب الشخص الآخر: "ألست منزعجاً مما حدث؟"، فيجيب: "بالطبع أنا منزعج قليلاً، لكن لا داعي للتحدث عن النتيجة، لن نغير شيئاً وسنحاول مجدداً"، إذاً.. أحدكما استخدم كلمات قليلة وأعطى الموقف حقه، من دون أن يسبب لنفسه وللآخر إزعاجاً أكبر، يقول مدرب مهارات الحياة توني روبنز: "ستكون حياتك غير عادية عندما تقوم بتخفيض حدة المشاعر السلبية وتكثيف المشاعر الإيجابية، من خلال الوعي التام بها، راقب الكلمات السلبية التي تستخدمها في معظم حديثك، واسأل نفسك كيف يمكنك تغييرها، وتذكر أن الحوار الداخلي يمكن أن يغير حياتك، ابدأ في إنشاء عادات مفيدة اليوم، وستصل بسرعة إلى حالة أكثر إيجابية وسعادة".
كيف توصل فكرتك بأقل عدد من الكلمات؟
كي لا تقع في فخ الإسهاب لأن لا أحد سينتظرك! يجب أن تحصل على نقطة الارتكاز في حديثك وفي أسرع وقت ممكن، وكل ما عليك فعله هو قول المزيد بكلمات أقل، إليك استراتيجيتان للتواصل تتيحان لك تقديم فكرة كاملة بعشر كلمات أو أقل:
1- مخطط الحديث: تستفيد مما يعرفه من يستمع إلى حديثك من معلومات، حيث يمكنك استخدام تقنيات مختلفة كالتي تُستخدم لتعزيز عملية الإقناع في الكتابة [2] مثل: التكرار (رغم أننا لا نريد استخدام الكثير من الكلام)، إلا أن تكرار بعض الاقتباسات مهم جداً، كذلك الدلائل العلمية، والتناسق والوضوح في الحديث من البداية حتى النهاية، والمقارنات وطرح المشكلة والحل بعد العمل على إثارة تعاطف مستمعك مع القضية المطروحة، بالإضافة إلى طرح التكهنات حول ما سيفضي إليه حديثك (لأنك تعرف تماماً عما تتحدث ولن تضيع ريثما تصل إلى النهاية)، كذلك ضرورة معرفة الحجج ضد حديثك، إذا ينبغي أن يكون هناك معترضين أو رافضين لما تطرحه، ولا ينبغي أن تستبعد هؤلاء الأشخاص.
2- ترابط الكلمات: لكل كلمة رابطة عاطفية كما قلنا أعلاه، وكما هو الحال في المخطط للحديث، فإن الاختيار الصحيح من بين الكلمات البسيطة؛ يساعدك على قول قصة كاملة بسرعة، مثال على ذلك ما تفعله شركات الاتصال الخلوي من خلال رسائلها القصيرة، فبدلاً من كلمة "اشترك" في عرض التوفير لمكالماتك على نفس الشبكة؛ تستبدل كلمة "اشترك".. بكلمة "وفر" مع عرض يوم الجمعة للمكالمات الخلوية على نفس الشبكة.. وهناك الكثير من الأمثلة التي تعبر عن كيفية ترابط الكلمات لتحقيق غاية محددة من حديث قصير، أو رسالة نصية.. الخ.
في النهاية.. درب نفسك على قول القليل من الكلام وراقب نفسك؛ سوف تتفاجأ! عليك مراقبة مشاعرك عندما تعبر عنها بكلمات معينة، كذلك كيف تعكس حديثك مع نفسك أمام الآخرين، وكيف ترتبط الكلمات بالعواطف، وكيفية تحويل السلبي منها إلى إيجابي، فهل تستطيع أن تعبر عن فكرة ما بأقل عدد ممكن من الكلمات؟ شاركنا ذلك عبر التعليق على هذا المقال، بجملة من ثلاث كلمات، إن استطعت!.
[1] مقال لمدرب الحياة توني روبنز Tony Robbins "غيّر كلماتك.. غيّر حياتك"، منشور على موقع tonyrobbins.com، تمت المراجعة في 06/07/2019
[2] مقال براين كلارك Brian Clark، "أساليب الإقناع الخالدة في الكتابة"، منشور على موقع copyblogger.com، تمت المراجعة في 06/07/2019