التمارين الرياضية والصحة النفسية (دور الرياضة في محاربة الأمراض النفسية)
من المؤكد أنك تعلم بالفعل أن نمط الحياة البعيد عن التمارين الرياضية يقودك لأمراض مزمنة مثل السمنة والسكري وأمراض القلب والسرطان وهشاشة العظام، لكن كم عدد المرات التي فكرت خلالها في ممارسة التمارين الرياضية لحماية صحتك النفسية والعقلية؟
هناك اهتمام متزايد بممارسة التمارين الرياضية كجزء مهم في محاربة الأمراض النفسية، وفي الوقت ذاته تتزايد الأسئلة حول كيفية الاستفادة من التمارين الرياضية في هذا المجال، وأنواع التمارين الرياضية المستخدمة في تقوية الصحة النفسية، وكذلك فوائد التمارين الرياضية من الناحية الذهنية.
إن معدلات الاكتئاب والقلق في أعلى مستوياتها المسجلة في العديد من البلدان، بسبب الجوانب السلبية لأسلوب الحياة الحديثة، والتي يترتب عليها زيادة العزلة الاجتماعية، وتناول الوجبات الغذائية السيئة، والتركيز على المال والصورة، لكن يبقى الخمول والابتعاد عن التمارين الرياضية عاملاً رئيسياً آخر لا يقل أهمية من غيره.
يجد معظمنا أن المشي تحت الشمس أو الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية يحسن من مزاجنا على المدى القصير، ومن المعروف أن التمارين الرياضية تحفز الجسم على إنتاج الإندورفين وهرمونات الجسم الطبيعية التي تمنح شعوراً بالرضا وتجعل المشاكل تبدو أكثر قابلية للإدارة.
ومع ذلك، فإن الفكرة الشائعة بأن ممارسة التمارين الرياضية قد تفيد الصحة النفسية والعقلية، تبدو أقل وضوحاً - خصوصاً بالنظر إلى التمييز الغربي بين العقل والجسم والذي يشير إلى أن الصحة العقلية والبدنية يمكن فصلها.
في الواقع، تقدم الدراسات والأبحاث المتخصصة أدلة قوية ومتزايدة على أن التمارين الرياضية ليست ضرورية للحفاظ على الصحة النفسية الجيدة فحسب؛ بل يمكن استخدامها لعلاج الأمراض العقلية المزمنة. على سبيل المثال، أصبح واضحاً الآن أن ممارسة التمارين الرياضية، تقلل من احتمال الاكتئاب، وتحافظ أيضاً على الصحة العقلية مع تقدمنا في العمر، كما تعتبر التمارين الرياضية، مثلها مثل الأدوية، تدخلاً علاجياً مهماً في حالات عديدة، مثل الاكتئاب الخفيف إلى المعتدل، والخرف والقلق، وتقلل التمارين الرياضية كذلك من المشكلات المعرفية في الفصام.
كيف يحدث ذلك؟ التمارين الرياضية تؤثر بشكل مباشر على الدماغ، وتؤدي التمارين الرياضية المنتظمة إلى زيادة حجم مناطق معينة من الدماغ جزئياً، من خلال تدفق أفضل للدم لتحسين صحة الخلايا العصبية عن طريق تحسين توصيل الأكسجين والمواد المغذية؛ ومن خلال زيادة العوامل والهرمونات العصبية التي تدعم إشارات الخلايا العصبية والنمو والترابط.
للحصين أهمية حاسمة في ما يتعلق بالصحة العقلية. الحصين عبارة عن منطقة من الدماغ تشارك في الذاكرة وتنظم العواطف وأحاسيس التعلم، وتُظهر الدراسات التي أجريت على حيوانات مختلفة أن النشاط البدني يؤدي إلى إنشاء خلايا عصبية جديدة مثل الحصين، مع وجود أدلة أولية تشير على أن هذا يحدث أيضاً لدى البشر عند ممارسة التمارين الرياضية.
تتراكم الأدلة حول ارتباط العديد من حالات الصحة النفسية أو العقلية بتكوين الخلايا العصبية في الحصين، هذه الأدلة تزداد قوة في مرض الاكتئاب. ومن المثير للإهتمام، أن العديد من مضادات الاكتئاب - التي كان يعتقد في السابق أنها تعمل من خلال تأثيرها على نظام السيروتونين - معروفة الآن بزيادة التكوين العصبي في الحصين.
وتشير النظريات إلى أنه من المرجح أن تكون الخلايا العصبية الحصينية الوليدية مهمة بشكل خاص في تخزين ذكريات جديدة والحفاظ على الذكريات القديمة والجديدة بشكل منفصل. وبالتالي، فإن التوليد العصبي يسمح بمستوى صحي مرن لدى استخدام الذكريات الحالية، وكذلك يسمح بمعالجة مرنة للمعلومات الجديدة.
إلى ذلك، بيّن الطبيب النفسي المختص مادهوكار تريفيدي أن ثلاث جلسات أو أكثر أسبوعياً من التمارين الرياضية أو تدريبات المقاومة، لمدة 45 إلى 60 دقيقة لكل جلسة، يمكن أن تساعد في علاج الاكتئاب المزمن. ويمكن ملاحظة هذه التأثيرات بعد أربعة أسابيع تقريباً (وهو بالمناسبة الوقت نفسه الذي يستغرقه تكوين الخلايا العصبية)، ويجب أن يستمر التدريب لمدة تتراوح بين 10 و12 أسبوعاً، للحصول على أكبر تأثير مضاد للاكتئاب. [1]
هناك عدد كبير يكاد لا يحصى من فوائد ممارسة التمارين الرياضية على الصحة النفسية، نوجز أبرزها على النحو التالي: [2]
- تقليل التوتر: من خلال المشي أو ممارسة التمارين الرياضية في صالة الألعاب الرياضية، يمكنك تخفيض نسب التوتر لديك، حيث تساعد التمارين الرياضية أيضاً على زيادة تركيزات النوربينيفرين، وهي مادة كيميائية يمكن أن تخفف من استجابة الدماغ للإجهاد.
- زيادة إنتاج المواد الكيميائية "السعيدة": تزيد ممارسة التمارين الرياضية من نسبة تدفق الإندروفين الذي يخلق مشاعر السعادة والنشوة، هذه المادة ضرورية للغاية من أجل تخفيف أعراض الاكتئاب السريري أو القلق، ولهذا السبب فإن التمارين الرياضية تحمل المساهمة الإيجابية نفسها التي تحملها الأدوية المضادة للاكتئاب، دون التضرر من التأثيرات الجانبية.
- تعزيز الثقة بالنفس: تعزز التمارين الرياضية احترام الذات وتحسّن الصورة الإيجابية، وترفع من سرعة تأثير الشخص لجاذبيته أو قيمته الذاتية، وهو ما يساعد في التقليل من أعراض الأمراض النفسية المختلفة.
- منع التدهور المعرفي: مع تقدمنا في العمر، تصبح أدمغتنا ضبابية، وتزداد الأمور صعوبة في حال المعاناة من أعراض الشيخوخة التي تقتل خلايا الدماغ ليفقد وظائفه المهمة، لكن ممارسة التمارين الرياضية واتباع نظام غذائي صحي، يساعد على تحفيز الدماغ ضد التدهور المعرفي الذي يبدأ من سن 45، لأن التمارين الرياضية تعزز المواد الكيميائية التي تدعم الحصين الذي يعد جزءاً مهماً للذاكرة والتعلم في الدماغ.
- تخفيف القلق: تساعد التمارين الرياضية الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق، على التمتع بالهدوء، من خلال إفراز المواد الكيميائية الدافئة في الدماغ، ما يعني أن التمارين الرياضية أفضل في محاربة القلق من حمام دافئ!
- زيادة القوة العقلية: أظهرت دراسات مختلفة أجريت على الفئران والرجال، أن ممارسة تمارين المقاومة المفيدة للقلب والأوعية الدموية، تساعد في تكوين الخلايا العصبية وتحسين الأداء العام للدماغ، كما أن التمارين الرياضية الشاقة، تزيد مستويات البروتين المشتق من الدماغ والمعروف باسم BDNF، وهو ما يساعد في صنع القرارات والتفكير المنتظم.
- تعزيز الذاكرة: ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، تساعد الحصين في الدماغ على تعزيز الذاكرة والقدرة على تعلم أشياء جديدة، ولهذا السبب، ربطت الدراسات بين التطور العقلي للأطفال واللياقة البدنية.
- المساهمة في السيطرة على الإدمان: يطلق الدماغ مادة الدوبامين المسؤولة عن الاستجابة لأشكال المتعة أثناء التمارين الرياضية أو الممارسات الجنسية أو تناول الكحوليات والمخدرات والطعام، ولسوء الحظ فإن بعض الناس يصبحون مدمنين على آثار الدوبامين والمواد التي تساعد على إنتاجها وأهمها الكحول والمخدرات، وهنا يأتي دور التمارين الرياضية التي تشتت الانتباه عن هذه الأمور وتجعل المدمنين يرفضون تحديد أولويات الرغبة الشديدة على المدى القصير تحديداً، كما أن تعاطي الكحول يعطّل الساعة البيولوجية للجسم، في حين أن التمارين الرياضية تساعد على إعادة تشغيلها والتمتع بساعات نوم أكثر انتظاماً. [2]
- التمارين الرياضية والاكتئاب: تشير الدراسات إلى أن التمارين الرياضية يمكنها أن تعالج الإكتئاب الخفيف إلى المعتدل، بالفاعلية ذاتها الخاصة بالعلاجات المضادة للاكتئاب، لكن من دون أي آثار جانبية. وأجرت كلية الصحة النفسية في جامعة هارفارد، دراسة تبين أن الجري لمدة 15 دقيقة يومياً أو المشي لمدة ساعة، يقلّل من خطر الإكتئاب الشديد بنسبة 25% بالإضافة إلى تخفيف أعراض الاكتئاب، كما أوضحت الدراسة أيضاً أن الإلتزام بجدول تمارين رياضية منتظم، يمنع المريض من الانتكاس مجدداً.
ممارسة التمارين الرياضية محارب مهم للاكتئاب لأسباب عديدة، والأهم من ذلك، أنها تشجع جميع أنواع التغييرات في الدماغ، بما في ذلك النمو العصبي وانخفاض الالتهاب وأنماط النشاط التي تعزز مشاعر الهدوء والرفاهية. كما أن التمارين الرياضية، تساهم في إطلاق الأندورفين في الجسم، وهي مواد كيميانية قوية في العقل تنشط الروح المعنوية ومشاعر الراحة، ونضيف إلى ذلك، أن التمارين الرياضية يمكنها أن تتحول إلى مصدر إلهاء عن الأفكار السلبية التي تغذي مرض الإكتئاب. - التمارين الرياضية والقلق: التمارين الرياضية علاج طبيعي فعال ومضاد للقلق، حيث تعمل التمارين الرياضية على تخفيف التوتر والإجهاد، وتعزز الطاقة الجسدية والذهنية من خلال إطلاق الاندورفين.
تساعد جميع أنماط التمارين الرياضية على تقوية صحتك النفسية، لكن الفائدة منها تكون أشمل عند الاهتمام والتركيز على أمور معينة بإجراء التمارين. على سبيل المثال، حاول أن تنتبه لإحساس اصطدام قدميك بالأرض عند إجراء التمارين الرياضية، أو ركّز على إيقاع تنفسّك، أو شعور مرور الهواء على جلدك. من خلال عنصر اليقظة هذا والتركيز على جسدك وشعوره أثناء ممارسة التمارين الرياضية، لن تتمكن فقط من تحسين وضعك البدني، بل يمكنك أيضاً منع تدفق المخاوف نحو تفكيرك. - التمارين الرياضية والإرهاق: عندما يشعر جسمك بالضغط والإرهاق، تكون عضلاتك متوترة، خصوصاً في منطقة الوجه والرقبة والكتفين، الأمر الذي يسبب آلاماً في الظهر والعنق أو الصداع المؤلم، وقد يؤدي أحياناً إلى الشعور بضيق في التنفس أو تقلصات عضلية، ويمكن أن يصل الأمر إلى حرقة في المعدة أو الإسهال أو التبول المتكرر، والقلق من كل هذه الأعراض الجسدية، يؤدي لمزيد من التوتر.
التمارين الرياضية وسيلة فعالة لكسر هذه الدورة من خلال إطلاق الإندروفين إلى الدماغ، وتساعد التمارين الرياضية كذلك على استرخاء العضلات وتخفيف آثار التوتر على الجسم، ونظراً لأن الجسم والعقل مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، فإن عقلك يشعر بتحسن كبير عندما يشعر جسدك كذلك بعد ممارسة التمارين الرياضية. - التمارين الرياضية واضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة: تعتبر ممارسة التمارين الرياضية بانتظام، واحدة من أسهل الطرق وأكثرها فاعلية في تقليل أعراض فرط الحركة ونقص الانتباه، وفي تحسين التركيز والذاكرة والمزاج.
تعزز التمارين الرياضية على الفور مستويات الدوبامين والنورايبين والسيروتونين في الدماغ، وهو ما يؤثر إيجاباً على التركيز والانتباه، وبكلمات أخرى، فإن التمارين الرياضية تعالج اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، بالفاعلية ذاتها الخاصة بالأدوية المتخصصة في علاج هذا الاضطراب مثل ريتالين وأديرال. - التمارين الرياضية واضطرابات ما بعد الصدمة: عند ممارسة التمارين الرياضية، وبالتحديد عند التركيز بشكل مكثف على جسمك وشعورك أثناء ممارسة التمارين الرياضية، يمكنك مساعدة جهازك العصبي على الخروج من حالة الإنغلاق، ليبدأ في مقاومة استجابة سمات الإجهاد التي تميز اضطراب ما بعد الصدمة.
يحدث اضطراب ما بعد الصدمة، عند تعرّض شخص ما لحادثة كارثية أو تهديد استثنائي، أو مشاهدته لحادث خطير أو عنيف، وبدلاً من السماح لعقلك في التفكير فيما حدث، ركّز على الأحاسيس الجسدية في المفاصل والعصلات، حتى داخل جسمك أثناء الحركة.
وتعتبر التمارين الرياضية التي تحتوي على حركات متقاطعة بين الذراعين والساقين، مثل المشي على الرمال أو الجري أو السباحة أو الرقص، من بين أفضل الخيارات المتاحة في التمارين الرياضية لمحاربة اضطراب ما بعد الصدمة، كما أثبتت الدراسات أيضاً، أن المشي لمسافات طويلة والإبحار وركوب الدرجات في الجبال وتسلق الصخور، يقلّل من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. [3]
أظهرت دراسة أجرتها مطبوعة لانسيت للطب النفسي، أن التمارين الرياضية الجماعية، أو ممارسة الرياضات الجماعية مثل كرة القدم وكرة السلة، تعد الوسيلة البدنية الأفضل لتعزيز الصحة النفسية، لأنها لا تشتمل فقط على تمارين جسدية، بل تمثّل كذلك فرصة لإجراء نشاطات اجتماعية وتكوين صداقات من خلال هوايات اشتهرت بأنها مقاومة للاكتئاب والقلق الاجتماعي.
لكن إذا لم تكن محباً للرياضات الجماعية، إليك أفصل التمارين الرياضية الفردية الرائدة في مجال دعم الصحة النفسية:[4]
- اليوغا: وفقا للجمعية الأميركية لعلم النفس، تساعد ممارسة اليوغا على الاسترخاء وتقلل من أعراض التوتر، إن القضاء على مستويات التوتر العالية مفيد للأشخاص الذين يعانون من غزو الأفكار السلبية الشائعة في الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والإرهاق واضطراب ما بعد الصدمة.
- ركوب الدراجات: استخدام المهارات الخاصة برياضات الدراجات، يمكّن ممارسها من الحفاظ على صحة المادة البيضاء في المخ، الأمر الذي يسمح بعمليات تفكير أكثر سلاسة، ووجدت الأبحاث أن الأفراد الأصحاء وكذلك الأفراد الذين يعانون من انفصام الشخصية، والذين مارسوا رياضة الدراجات، زادوا من تكامل المادة البيضاء في المخ بعد مرور ستة أشهر من ممارسة هذه الرياضة، وهو ما قد يسهم في تخفيف أعراض مهمّة مثل ضعف التنسيق الحركي والصور الذهنية غير المنتظمة.
- الجري: وجد مصور وثائقي اسمه مارتن إبرلين، أن الجري من التمارين الرياضية المناسبة له بعد تشخيصه باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، وقال: "الجري يساعدني في السيطرة على أفكاري، ويبطئ من حركتي، ويمنحني الفرصة للتركيز على الأشياء التي احتاج للتركيز عليها".
- بالإضافة إلى ذلك، وجدت مجلة فرونتيز لعلم النفس، أن الجري يساعد في التحكم بأعراض الهوس لأولئك الذين يعانون من اضطراب ثنائي القطب، ويوفر الإيقاع الذي تحدده سرعة العدّاء تأثيراً مهدئاً، ويساعد أيضاً على تنظيم الحالة المزاجية.
- تمارين الإيروبيك أو الصالة الرياضية: وجدت دراسة أجرتها مطبوعة لانسيت للطب النفسي، أن التمارين الرياضية الهوائية عالية الكثافة، تساعد في تعزيز الصحة العقلية الجيدة، ومن ضمن هذه التمارين تبرز التمارين الرياضية على الأجهزة المختلفة داخل الصالات. [4]
في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن ممارسة التمارين الرياضية، تمنحك شعوراً بالتميز، وتعزز قوتك البدنية والذهنية في آن واحد، فلا تتأخر في بدء ممارستها بانتظام، وسيكون خبراؤنا رهن إشارتكم في حال احتجتم إلى أي استفسار في هذا السباق، عبر هذا الرابط.