أثر انشغال الوالدين على الأبناء ونصائح للأهل المنشغلين
يبدو أن الحياة المعاصرة وما رافقها من تقدم وتطور على مختلف الأصعدة، لم تكن نتائجها وآثارها دائماً ذات منحى إيجابي ومفيد للإنسان، فكما وفرت هذه الحداثة الكثير من وسائل الراحة للإنسان وسهلت أعماله ومهامه، فإنها من جهة فرضت أنواع جديد من المشاكل والواجبات التي لم تكن موجودة من ذي قبل -والتي يبدو أنها أكثر تعقيداً من سابقتها- ومن جهة أخرى خلقت تحديات نوعية جديدة في العلاقات الأسرية وأساليب التربية.
وفي العلاقة بين الأهل والأبناء يمكن ملاحظة أثر هذا التطور من خلال النظر إلى مدى تفرغ الأهل لتربية أبنائهم ومدى انشغالهم عنهم، وكيف انعكس كل هذا على طبيعة العلاقات بين الأبوين مع بعضهما من جهة وبين الأبوين وأبنائهما من جهة أخرى وما أفرزه كل هذا من أشكال مختلفة في التربية والمشاكل التربوية.
ارتفاع متطلبات معيشة الإنسان في هذه الأيام خلق معه حاجات جديدة وعصرية أصبحت ضرورية حتى يتمكن هذا الإنسان من مواكبة عصره ومحيطه ومجتمعه، وفي هذه الظروف أصبحت ساعات اليوم قليلة وقد لا تكفي ليتمكن الإنسان من القيام بجميع واجباته ومتطلبات حياته بالشكل الأمثل، ولهذا نجد الآباء كثيراً ما ينشغلون عن أطفالهم بأمور متعددة مثل:
- العمل وتأمين متطلبات الأسرة: فمتطلبات الحياة في تزايد مستمر وملحوظ، ومع هذا التزايد أصبح الوالدان مضطران للعمل كلاهما لتحسين دخلهما قدر المستطاع وربما يكون لديهما أكثر من عمل وكل ذلك سوف يملئ وقتهما ويجعلهما غير قادرين على إيجاد الوقت الكافي لتربية أطفالهم.
- العلاقات الاجتماعية: لكل من الوالدين منظومته الاجتماعية الخاصة التي تفرض عليه العديد من الواجبات، مثل عائلة كل من الوالدين أو أصدقائهما أو العلاقات المتعلقة بالعمل، وهذه العلاقات ربما إن زادت عن حدها أدت لانشغال الشخص عن منزله وواجباته الأسرية، مثل المبالغة بالزيارات والمجاملات وحضور المناسبات المتنوعة.
- الأهداف الشخصية للوالدين: الأم والأب لديهما رغبات ونشاطات وطموحات خاصة أيضاً، والتي قد تتطلب في تلبيتها الكثير من الجهد والوقت، وقد يستغرقان بها إلى حد يشغلهما عن طفلهما وحياتهما الأسرية.
- كثرة الأبناء: قد يكون لدى الطفل الكثير من الأشقاء وربما أحدهم أصغر منه سناً ويحتاج لقدر كبير من الرعاية أو ربما من والد أو والدة مختلفين، بالإضافة لباقي أفراد الأسرة، وقد لا يجد الوالدان القدر الكافي من الوقت لتقديم الاهتمام اللازم لكل أطفالهم بنفس الدرجة والمستوى.
- الواجبات المنزلية: فالمنزل أيضاً يحتاج للكثير من العمل والواجبات التي غالباً ما تقع على عاتق الأمّ وحدها من طبخ وتنظيف والعديد من الأشياء الأخرى، ولذلك فهي لا تملك الوقت الكافي للجلوس دائماً مع طفلها خاصّة إن اجتمعت مهامها المنزلية مع العمل خارج البيت.
- وسائل الاتصال والتكنولوجيا: وتعد هذه المسألة من الموضوعات الأكثر تسبباً بانشغال الوالدين عن أطفالهم في السنوات الأخيرة، فالهواتف الذكية أصبحت لا تفارق أيدي الوالدين معظم اليوم غير مبالين بأن أطفالهم يحتاجون للتواصل معهم والرعاية والاهتمام من قبلهم.
- الخلافات الزوجية: وهي من أكثر الأشياء التي تجعل أجواء المنزل مشحونة ومتوترة دائماً، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأجواء على الأطفال سواء من حيث حرمانهم من أجواء المحبة والاستقرار الأسري، أو من حيث العناية بهم من قبل والديهم.
- الإهمال العاطفي للأبناء: أحياناً قد لا يكون سبب انشغال الوالدين عن الأبناء وجيهاً أو متعلقاً بالوقت المتاح لهما في زحمة الحياة، وإنما يهمل بعض الآباء أبناءهم على حساب أمور تافهة وقليلة الأهمية، وهذا يندرج تحت الإهمال العاطفي للأبناء.
كيف يؤثر انشغال الوالدين على تربية الطفل، على شخصيته وصحته ومستقبله؟
الأطفال بأمسِّ الحاجة للرعاية والعناية والمحبة والاهتمام من ذويهم، وخاصة في مراحلهم العمرية المبكرة، فالطفل الرضيع مثلاً لا يستطيع القيام بأي من حاجاته الطبيعية الأساسية دون الاتكال التام على والدته كالطعام والعناية بالنظافة الشخصية والصحة، ثم كل مرحلة عمرية تأتي بحاجات جديدة لدى الطفل يجب على أبويه العناية بها، فضلاً عن حاجات كل من الأبوين وطموحاته كشخص طبيعي.
وعندما لا يحسن الأهل تنظيم وقتهما بشكل فعال تظهر بعض المشاكل الناتجة عن انشغالهم عن تربية أطفالهم، ومن هذه المشاكل:
- إهمال تغذية الطفل: كالاستغناء عن الرضاعة الطبيعية من الأم دون وجود سبب طبي، حيث ترغب بعض الأمهات بالحفاظ على شكل الثدي وعدم إفساده بالرضاعة، كما تنشغل أخريات بالوظائف والمهام المنزلية، ما يدفعهن للتعويض عن الرضاعة الطبيعية بالمنتجات الصناعية، وقد تستمر البدائل غير الصحية في كل مراحل الطفولة.
- الحرمان العاطفي: فالطفل يحتاج للقرب من والديه ليس فقط لتلبية حاجاته المادية، وإنما أيضاً لديه حاجات عاطفية، وانشغال والديه عن إشباعها له آثار سلبية على نفسية وشخصية الطفل.
- التأخر في تعلم بعض المهارات الضرورية: كاللغة والكلام أو المشي أو الطعام والعناية بالنظافة وارتداء الملابس والعديد من المهارات الأساسية في حياة الطفل.
- ضعف العلاقة بين الطفل ووالديه: وما لهذا الضعف من آثار على تكوين الشخصية الاجتماعية للطفل، كالفتور العاطفي تجاه والديه والتفكك الأسري.
- آثار صحية: حيث أن الطفل في مراحله المبكرة يحتاج إلى رعاية تامة من قبل والديه مثل النظافة الشخصية أو دخول الحمام والعناية الصحية، وإهمال هذه الأشياء سوف يعود بأثر سلبي على صحة الطفل وعلى اكتسابه للعادات الصحية الصحيحة.
- الدور التربوي للوالدين: الطفل سيتعلم ويبحث عن الإجابات سواءً قدمها الآباء والأمهات أو غيرهم، لذلك فإن انشغال الأبوين عن الأطفال قد يجعل مصادر المعرفة والاكتساب غير منضبطة بحياة الطفل، ما قد يفشل النهج التربوي بأكمله.
يريد الأهل الوصول إلى حلول سريعة لمشكلة عدم إيجاد الوقت الكافي للعناية بأطفالهم، وذلك دون الحاجة لتعطيل مسار حياتهم الشخصية والمهنية، وهم في غايتهم هذه غالباً ما يلجؤون لوسائل ذات تأثير سلبي على طفلهم من النواحي النفسية والعاطفية وربما الجسدية لطفلهم، فيرتكبون الأخطاء التي ربما تعالج مشكلتهم بشكل آني ومؤقت لتعود وتظهر أمامهم أكثر تعقيداً في وقت لاحق.
ومن هذه الأخطاء التربوية التي يرتكبها الآباء والأمهات المنشغلون:
- ترك العناية بالطفل للمربين والخدم: وهذه من المشاكل الشائعة في مجتمعنا، وعادة ما ينتج عنها أثار نفسية واجتماعية وعاطفية سلبية على شخصية الطفل وحياته، عدا عن تعرض بعض الأطفال للأذية الجسدية والاعتداء الجنسي من قبل الأقارب أو العاملات الأجنبيات.
- اللجوء لخيارات تغذية سيئة: كالحليب الصناعي والمكملات الغذائية بدلاً من حليب الأم والغذاء الطبيعي الضروري لصحة الطفل، ثم الأطعمة الجاهزة والمصنعة بدلاً من الطازجة والمطبوخة في المنزل.
- إلهاء الطفل بوسائل التكنولوجيا والألعاب: حيث يلجأ بعض الآباء إلى التخلص من أطفالهم بدفعهم للتسلية بالهواتف الذكية بدلاً من الجلوس معهم والاهتمام بهم، ولهذا أضرار جسيمة ناقشنها في مقالنا عن أضرار إدمان الأطفال على الهواتف الذكية.
- اللجوء لوسائل خاطئة لإبعاد الطفل: في بعض الأحيان تعطي الأمهات أدوية لأطفالهن ليناموا ويتخلصن من إزعاجهم، أو يكلفونهم بمهام لا تناسب سنهم وقدراتهم بما يجعلهم يتعبون ويجهدون بسرعة، كما يفقدون ثقتهم بأنفسهم جراء عدم تمكنهم من تلبية هذه المهام.
للخروج من المأزق الذي ينتج عن المقارنة بين انشغال الوالدين بحياتهم الشخصية ومهامهم الحياتية من جهة، وحاجة طفلهم للمحبة والاهتمام والرعاية؛ يمكن اتباع مجموعة من الخطوات للتخفيف قدر الإمكان من سلبيات هذه المعضلة الاجتماعية، ومن أساليب إدارة تربية الأطفال مع آباء وأمهات منشغلين:
- تنظيم وقت الحياة عموماً: الأمر أشبه بتجميع قطع مختلفة بالشكل والحجم في إطار محدد، تغير الترتيب دائماً يساعد على استغلال المساحة، وإعادة تنظيم الوقت سيكون أولوية للآباء المنشغلين ليتمكنوا من استغلال الوقت بفاعلية قصوى.
- تقسيم الوقت بين الوالدين: بشكل مدروس ومخطط من حيث المهام والواجبات بهدف تجاوز الخلافات وتأمين متطلبات الطفل والمنزل، دون أن يشعر الطفل بنقص، أو يضطر أحد الوالدين للتضحية بحياته بشكل كلي فيما ينغمس الآخر بتحقيق ذاته.
- إدخال الطفل في برامج ونشاطات مفيدة: مثل أنواع الرياضة المختلفة المحببة والمفيدة بالنسبة للأطفال، أو تعلم أحد المهارات في المؤسسات المختصة، أو حتى تنمية المقدرات والمواهب الخاصة التي قد يتمتع بها الطفل، حتى لا يشعر الطفل بالفراغ وبحاجة وجود والديه دائماً بجانبه.
- التعويض العاطفي: مثل العمل على جعل الوقت القليل المتاح للأطفال كافي لإيصال مشاعر المحبة والاهتمام واستمرار التواصل بين الطفل وذويه، كمشاركته للأشياء التي يحبها والاهتمام أكثر بمشاعره دون مبالغة؛ حتى لا يشعر أن المسافة بعيدة جداً بينه وبين والديه، هذا بالإضافة لإيجاد الوقت للتحدث والحوار معه وتعليمه حكم وعبر الحياة.
- الانتباه لسلوك الأهل أمام طفلهم: انشغال الوالدين كما ذكرنا لا ينعكس فقط على عنايتهما بالأطفال، بل أيضاً على علاقتهما الزوجية، وعليه يجب أن يكون الوالدان حذرين في التعامل مع بعضهما أمام الأطفال وحل المشاكل الزوجية لتأمين بيئة أسرية مستقرة.
- العمل على تنسيق وقت انشغال الأهل مع وقت انشغال طفلهم: مثل جعل أوقات الفراغ مشتركة كفترة عودة الأهل من العمل وعودة الطفل من المدرسة، وجعل أوقات العمل أيضاً متناسبة مثل تناسب وقت قيام الأهل بالواجبات المنزلية مع انشغال الطفل بالواجبات المدرسية.
- التركيز على الحياة الأسرية: لا يجوز مثلاً أن يأكل أفراد الأسرة في مواعيد مختلفة وكل منهم وحده بل يجب أن يجتمع الجميع على المائدة ويتبادلون أطراف الحديث أثناء تناول الطعام، هذا بالإضافة لضرورة الخروج في نزهة أو أي شيء من هذا، حيث يجب أن يعتاد الطفل على أجواء الأسرة ولا يفقدها حتى لو كانت أوقاتها قليلة.
من القضايا التي وردتنا إلى مجتمع حِلّوها فتاة تشتكي من انشغال والدها عنها وعن أخوتها بشكل كبير خاصّةً بعد أن غيّر عمله من الطب إلى الأعمال الحرة، وهي تبحث عن حل لاستعادة والدها ليقضي معهم مزيداً من الوقت، أجابتها الخبيرة في موقع حِلّوها د. سناء عبده:
"خير الأمور أوسطها، فالوسطية والاعتدال مطلوبة في كل الأمور، ويجب أن تتحدثي مع والدك بشكل صريح ولكن دون إغضابه أو إحزانه، أخبريه أن يقسم وقته ويجعل لكم وقتاً خاصاً بكم فأنتم تحتاجون له ولقضاء بعض الوقت معه، وأن هذا الأمر لأجله هو ولأجل صحته فهو يجب أن يأخذ استراحة كذلك من ضغط العمل ولكم أن تقضوا معه وقت إجازة وتشاركوه في سفرة عمل مثلاً، ويجب أن تكوني ذكية وبدلاً من الزعل عليه تصيدي الوقت الذي يمكن أن يكون متفرغاً فيه لقضاء بعض الوقت معه وتذكري ـنه يعمل لأجلكم فلا تضغطي عليه كثيراً وكوني إيجابية".
لمراجعة الاستشارة الكاملة وتفاعل القراءة في مجتمع حِلّوها ولتقديم النصيحة يمكنك الضغط على هذا الرابط.