كيف تحول الآباء العرب إلى صراف آلي؟
هل تحول الآباء العرب إلى ماكينات صراف آلي ATM؟ واقتصر دورهم داخل الأسرة على الإنفاق وتلبية الاحتياجات؟ وكيف يؤثر تحول الرجل إلى مجرد بنك متنقل على الأسرة العربية؟
فيما يلي نستعرض مشكلة تراجع دور الأب التربوي والاجتماعي والثقافي داخل الأسرة العربية، ونظرة الزوجة والأبناء له على أنه صراف آلي فقط، والمشكلات التي ترتبت على ذلك، وكيفية علاجها.
أسباب متعددة ونتيجة واحدة
عشرات الأمهات مقابل عدد أقل من أصابع اليد الواحدة للآباء، هذا هو المشهد المعتاد إذا ما قمت يوماً بزيارة إلى إحدى المدارس العربية أثناء اجتماع يضم أهالي الطلاب، وهذا الأمر سيتكرر في تدريبات النوادي، واحتفالات التخرج، والعروض المسرحية والموسيقية.
تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، أسباب اقتصادية تتعلق بظروف العمل من أجل توفير حياة كريمة، وظروف اجتماعية قد تتمثل في انفصال الزوجين أو غيرها، وظروف شخصية تتعلق بطبيعة التكوين النفسي لغالبية الرجال في العالم العربي، والضحية في نهاية المطاف هي الأسرة العربية التي أصبح كيانها مهدداً.
وبينما يواجه الرجال هجوماً شرساً وصل إلى حد وصف بعضهم بأنهم مجرد آلة ATM لصرف الأموال فقط وتغطية احتياجات الأسرة دون دور حقيقي، أو مساهمة فعالة، يدافع بعضهم عن أنفسهم متهمين الأمهات بأنهن من تصادرن هذا الحق لأنفسهن، إما للخوف الزائد على الأبناء والتدخل في كافة تفاصيل حياتهم، أو لعدم ثقتهن في قدرة الرجال على أداء هذا الدور.
هل تستطيع المرأة لعب الدورين؟
تتحمل الزوجة العربية الكثير من المهام، المتعلقة بالبيت والزوج والأطفال، والعمل أيضاً في حال كونها زوجة عاملة، وتتولى مسئولية المنزل وتنظيفه، والأطفال برعايتهم صحياً وغذائياً وتعليمياً وترفيهياً وكذلك نفسياً، وهو ما أكدته دراسة أجرتها جامعة "ميسوري" بأن مهام الزوجة تزيد خمسة أضعاف بعد إنجاب الأطفال، في مقابل الزوج الذي تتضاعف مهامه مرة واحدة فقط.
لاشك أن الأمر يعد عملاً بطولياً للمرأة، ولكن هل يضحى بعد ذلك كله عملاً ناجحاً، ويؤسس أطفالاً أسوياء صحياً ونفسياً؟ الإجابة أنه بلا أدنى شك "لا"، فكل هذه الجهود ستكون بمثابة حرث في الماء، مع غياب الأب.
والأم لا يمكنها وحدها تحمل مسؤولية تنشئة طفل، لو كان ذلك ممكنا لقدر لنا الله إنجاب الطفل من غير رجل، وهناك ظروف تقتضيها الضرورة أحياناً، فعند وفاة الأب، أو عدم رغبته في المشاركة في التربية عند الانفصال أو عدم كونه قدوة حسنة، تستطيع المرأة تأدية الدورين إلى حد ما، ويفضل علم النفس أن يكون في حياة الطفل قدوة من الجنس الآخر كالخال أو العم أو الجد.
ومن المؤكد أن نظرة الرجل وطريقته قد تختلف عن الأم، لذا فهما يكملان بعضهما، خاصة مع قدرة الرجال على الحب والصرامة في الوقت ذاته، والتي تمكنهم من نقل صورة حية عن القيم والأخلاق لأطفالهم. وهناك بعض المفاهيم التي لا تستطيع الأم وحدها نقلها للطفل، خاصة بالنسبة للذكور، مثل الرجولة والمسئولية، وتعلم أساليب إدارة العلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى المعلومات الجنسية عندما يكبرون، ووجود الأب يعتبر عاملاً أساسياً في نمو الطفل حيث يكون الارتباط العاطفي والقيم المتبادلة معه أساس نموه الصحي سواء العقلي أو النفسي.
مبررات متنوعة يسوقها الآباء، وأسباب مختلفة يعزيها خبراء علم النفس والاجتماع في توسع تلك الظاهرة في الأسرة العربية، والتي لا يدفع ثمنها سوى الأطفال بالطبع.
ويبقى السبب الرئيسي في تغيير تركيبة الأسرة العربية وغياب الأب عنها هو تغيير مفاهيم المسؤولية والقيم داخل الأسرة، حيث أصبحت مسؤولية الآباء وبعض الأمهات تكمن في توفير الماديات وما يعتقدون أنها فرص حياتية أفضل لأطفالهم، ولم تعد مسؤولية تربية الأطفال موجودة في الاعتبار، وإنما يظنون أنها باتت مسئولية المدارس باهظة الثمن التي يختارونها لهم، فلم تعد هناك أي قيمة حقيقية للعلاقة الأسرية، واختفى دور التوجيه من الأب والأم، متكلين على جهة خارجية.
وهناك سبب آخر يتمثل في وجود ضغط اجتماعي يقتضي توفير كل أنواع الرفاهية والنشاطات المتعددة التي تربط الأب أو الأم بساعات عمل طويلة، وتحرم الأطفال من علاقة ضرورية لنموهم حيث ترتكز على العاطفة وتوطيد الرابط الأسري.
أمومة النساء الفطرية، وخوفهن الذي يوصف أحيانا بالمرضي على أبنائهم واستقرارهم، قد يكون سبباً في المشكلة، فقد يكون الأب عصبياً بعض الشيء، وتنأى الأم بأبنائها عنه، تجنبا لغضبه، فتزداد الفجوة، أو تحصره الأم في دور واحد، خوفاً من ألا يبلي حسنا في باقي الأدوار، فينحصر دوره رغما عنه في البداية، وتعوّدا في النهاية، لتلبية الاحتياجات المادية فقط.
ويعد غياب الأب عن الأسرة العربية، وتنازله عن دوره كمربي، وتحويل دوره لمجرد بنك في الأسرة العربية، ركيزة أساسية في دائرة انهيار الأسرة.
وهذا ما يدفع الأم بالضرورة لمضاعفة دورها، وتحمل مسئوليات مضاعفة، وهو ما يشكل ضغطاً نفسياً وعصبياً عليها، فتضحى أكثر انفعالاً، وأقل سعادة، ويزداد شعورها بالمرارة، بعد فقدانها المساندة النفسية والمادية.
وغياب الأزواج يرسخ لنمو أجيال بلا آباء، تفتقد إلى القدوة والمثل العليا الذين يمثلهم الأب، وإنما يظهر أبطال السينما والدراما، ومعلميهم وأصدقائهم، بديلاً عن الأب.
من أبرز أسباب تفكك الأسرة العربية غياب الأب مع غياب الاتفاق على مسئولية كل فرد، وهو ما يخلق معضلة "صراع الأدوار" بين الأم والأب، يحاول كل منهم حيازة أكبر مساحة من الصلاحيات والأدوار، وبالطبع التخلي عن أكبر مساحة من المسؤوليات، وهو ما يدفع البعض باتهام الأم أحيانا بإقصاء الأب لنيل أكبر قدر من الصلاحية لدى الأفراد، إلا أنها ترى أنه في حالة استجابة الأخير، فتكون بدافع رغبة منه أيضاً للتنصل من دوره، بعدم خوض علاقات تربوية حقيقية مع الأبناء، ويمضي بدلا من ذلك وقت فراغه مع أصدقائه.
وهو ما ينعكس على العلاقات العائلية التي أضحت مهمشة أكثر من السابق، باختفاء التجمعات العائلية، والاستشارات الأسرية، وزيارات الأقارب، فبات كل فرد منعزل إلى نفسه، وخاصة الأبناء الذين مع الوقت يشعرون باتساع فجوة بينهم ومن حولهم.
في كل عائلة، يكون محور الاستقرار هو اكتمال المثلث الأوديبي، والذي يضم أضلاعه الأب، الأم، والطفل، وعدم وجود أي من هذه الأضلاع، يسبب خللاً في توازن العائلة، وهو ما يسببه غياب الأب بالضرورة، إلا أن الأثر يمتد لصحة الطفل النفسية، واندماجه مع المجتمع.
ويمثل الأب لأطفاله صورة المثل الأعلى، والفارس، والمنقذ، وهي الصورة التي تعجز الأم في كثير من الأحيان عن تجسيدها، مما يسبب خللاً في نفسية الطفل، وارتباكاً في مشاعره، وهو ما أثبتته كثير من دراسات علم النفس، أن الطفل الذي يغيب عنه والده يواجه الكثير من المشكلات في عملية تطور سلوكه الاجتماعي العام، فيكون الطفل أقل استقلالية، بالإضافة إلى ميله للعصبية والعدوانية والانحراف واهتزاز ثقته بذاته، ومعاناته من القلق النفسي والاضطراب العاطفي الذي لم ينضج بسبب غياب الصورة الإيجابية للأب.
كيف يؤثر غياب الأب على صحة الأطفال؟
لا يؤثر غياب الأب عن دوره التربوي في تنشئة الأطفال على صحتهم النفسية فقط، وإنما يؤثر على صحتهم الجسدية أيضاً، وهذا ما أثبتته العديد من الدراسات.
دراسة أجراها FFCWS وهو مركز بحثي تابع لجامعة برينستون، بعنوان "العائلات الهشة ورفاهية الطفل"، قامت بتتبع حياة 5 آلاف طفل وُلدوا في الفترة ما بين عامي 1998 و2000 وقاموا بقياس طول التيلوميرات telomeres، والتي تحمل ارتباطاً وثيقاً بقصر العمر والشيخوخة المبكرة.
وكشفت الدراسة أن تلك التيلوميرات تتأثر سلباً بغياب الأب، فالأبناء الذين غاب عنهم والدهم في التاسعة من العمر، كانت التيلوميرات لديهم أقصر بنحو 14% مقارنةً بغيرهم، ويزداد الأثر لدى الفتيان مقارنة بالفتيات، خاصةً عند فقدان الأب في عمر الخامسة؛ إذ يقصر طولها بنسبة 16%.
الأمر أيضاً قد يتعلق بذكاء الأطفال، فأثبتت دراسة أجريت في الصين على أدمغة مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 7 و13 عاماً اضطر أولياء أمورهم تركهم مع ذويهم للسعي وراء فرص عمل أفضل، وكانت مدة الغياب أكثر من 6 شهور، أن معدل الذكاء لديهم أقل من الذين يعيشون مع أبويهم.
بين الظروف الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية، والاتهامات بين الأب والأم، يقع الطفل فريسة غياب الأب، ولكن هل هناك طرق نتمكن من خلالها من استعادة دور الأب المفقود؟
- إعداد برامج تدريبية تأهيلية للأزواج قبل زواجهم، لتأهيلهم للدور التربوي، وتدريبهم على مسئوليتهم كآباء عن صحة الأطفال الجسدية والنفسية، وعدم الاعتماد فقط على جاهزية الشباب من الناحية البيولوجية.
- الاتفاق على دور الأب بيننا كأفراد، والتخلي عن اعتقاد "ما يعيب الرجل هو جيبه"، الذي ساهم في اختزال دور الأب لماكينة صراف آلي.
- التواصل المستمر بين أفراد الأسرة، مما يخلق بيئة سليمة نفسية لصحة الأطفال، ويشعر الأب بدوره بطريقة عملية.
- دعم الآباء بعضهم بعضاً من خلال البحث والنقاش، وتوجيه بعضهم بعضاً إلى ضرورة توفير الدعم العاطفي للأسرة.
- تحقيق التوازن بين احتياجات الفرد والأسرة، مما يعود بالنفع على الأسرة ويسهم في التغلب على المصاعب والعقبات.
- تربية الذكور على تحمل مسئوليات في صغرهم، سواء في تربيتهم أشقائهم الصغار، أو المساعدة في تنظيف المنزل، أو حل مشكلات الأسرة وتقديم الاستشارات لها.
- حضور الأب في حياة أولاده بما في ذلك متابعة نموهم الاجتماعي والتطور الأكاديمي، وتجسيده لهم القدوة الحسنة والقوية التي هي أساس نمو الطفل حيث يكون الارتباط العاطفي والقيم المتبادلة معه أساس نموه الصحي سواء العقلي أو النفسي.
- تربية الأطفال على أن وجود والدهم معهم أهم بكثير من شرائه جوالا ثمينا، أو لعبة فاخرة، أو تقليده لأصدقائه بشكل عام.
- تفهم الأبوين وليس الأب فقط أن وجودهما في حياة طفلهما اليومية أهم من أي وسيلة تواصل إلكترونية، ويضعون ذلك في الأولويات وليس الكماليات.
وفي جميع الأحوال، وعلى الرغم من اختلاف الأسباب، يتبين أن غياب دور الأب المنشود، هو خطأ لا يدفع ثمنه سوى الأبناء، لذا من الأحرى بجميع الأطراف، الشعور بهذا الخطر، والتحرك فورا لمجابهته بكافة السبل الممكنة، سعياً لإعادة السلام والتوازن للأسرة العربية.