نظرة المجتمع للمريض النفسي وتأثيرها على العلاج
النظرة الاجتماعية للمرض النفسي والطب النفسي من أكبر العقبات التي تواجه الصحة النفسية وتطور أدوات الرعاية النفسية، وفاعلية العلاج أيضاً، حيث قد ينظر المجتمع للمريض النفسي نظرة السخرية والوسم الاجتماعي، وأحياناً نظرة الاستهانة والاستخفاف أو حتى الشفقة، وتؤثر هذه النظرة الاجتماعية للمرض النفسي بشكل كبير على فرص طلب المرضى للمساعدة والعلاج، وفرص الاستمرار بالعلاج ومدى فاعليته.
كيف ينظر المجتمع للصحة النفسية والعلاج النفسي! ترتبط نظرة المجتمع والناس للمريض النفسي بنظرتهم أو تصوّراتهم عن العلاج النفسي والصحة النفسية أولاً، حيث يميل الأشخاص عادةً إلى التقليل من جديّة الأمراض النفسية والاضطرابات العقلية، والاستخفاف بخطورة بعض الأحداث والتجارب على الصحة النفسية، أو الاستخفاف برغبة الأشخاص الذين يتعرضون لتجارب قاسية بالحصول على مساعدة نفسية.
هذه النظرة السلبية وغير الواثقة للصحة النفسية والعلاج النفسي تقود بشكلٍ مباشر لإهمال -عاطفي على الأقل- للأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية طارئة أو مزمنة، ما يقود بشكل كارثي لسوء حالة المريض وزيادة تأثير الاضطراب النفسي على حياته اليومية وأدائه المهني والاجتماعي، دون أن يكون قادراً على طلب المساعدة من المتخصصين خوفاً من الوصمة الاجتماعية!
من جهة أخرى يمكن تمييز حالة مناقضة لدى بعض الفئات الاجتماعية -أو الأفراد- التي تمنح الصحة النفسية قدراً أكبر من اللازم من الاهتمام (Over-care)، يقود بشكل أو بآخر لإضعاف الصحة النفسية لأفرادها، خصوصاً تأثير الاهتمام المفرط بالصحة النفسية على تربية الأبناء وتنشئتهم.
ولا بد للإشارة أيضاً لاستسهال الكثير من غير المختصين التصدي للمرض النفسي والمشاكل النفسية، حيث نسمع تصنيفات وتقييمات نفسية لا يمكن الوصول إليها بسهولة حتى في العيادات النفسية، مثل اتهام الأشخاص باضطرابات نفسية معينة دون الوعي والإدراك لحقيقة هذه الاضطراب، وربما الأكثر شيوعاً الاتهام بالنرجسية والوسواس القهري وتشخيص الأطفال بالتوحد، وكذلك محاولة "معالجة المريض النفسي" بعد مشاهدة فيديو قصير أو قراءة مقالتين أو كتابين!
كيف ينظر الناس للشخص الذي يتعالج من مرض نفسي! تطورت نظرة الناس للمريض النفسي أو الشخص الذي يتلقى علاجاً نفسياً بشكلٍ إيجابي خلال السنوات القليلة الماضية، يرجع ذلك بشكل أساسي إلى زيادة الوعي بالصحة النفسية وزيادة عدد الأشخاص -وخاصّة المؤثرين- الذي شاركوا تجاربهم مع المرض النفسي والعلاج، ولا شك أن النظرة الاجتماعية السلبية للمريض النفسي -سواء كان يتلقى العلاج أم لا- هي من أكبر العقبات التي تواجه المريض والمعالج في آنٍ معاً.
ويمكن الإجابة على سؤال كيف ينظر المجتمع اليوم للمريض النفسي من خلال النقاط التالية:
- التعاطف والمساندة: النظرة المتعاطفة مع المريض النفسي أصبحت أكثر شيوعاً، حيث نجد في الكثير من المواقف تعاطفاً كبيراً ومساندةً للمريض النفسي ليمكن من الحصول على العلاج، أو على الأقل لتجنيبه تأثير النظرة الاجتماعية السلبية على حالته أو فعالية العلاج الذي يخضع له.
- نظرة الشفقة: هناك خيطٌ رفيع يفصل بين التعاطف والشفقة في التعامل مع المرض النفسي، وفي كثير من الحالات تكون نظرة الشفقة والمبالغة بالتعبير عنها مؤذية للمريض النفسي وتؤثر به بشكل عكسي، ولذلك ينصح المعالجون النفسيون بالتعامل بشكل طبيعي مع الأشخاص الذين يعانون من مشاكل أو اضطرابات نفسية، وترجمة التعاطف بشكل لا يجرح الشخص أو يؤذيه.
- الوصمة الاجتماعية: ما زال المرض النفسية وصمةً اجتماعية في معظم المجتمعات البشرية، قد تقود لتعامل دوني وعنصري مع الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات أو مشاكل نفسية، وقد تصل إلى حد النبذ الاجتماعي والتحييد الذي -في أغلب الحالات- يتسبب بتفاقم الحالة المرضية.
- النظرة الخرافية للمرض النفسي: النظرة الخرافية التي تربط المرض النفسي بعوالم أخرى مثل تلبّس الجن والسحر والحسد وغيرها من التحديات الكبرى التي تواجه الطب النفسي، هذه النظرة من جهة تجعل المريض يلجأ -عن رغبة أو بالإكراه- لطرقٍ أقل ما يقال عنها أنها غير فعالة، ومن جهة أخرى تعزّز النظرة الخرافية للمرض النفسي من الوصمة الاجتماعية والشعور بالعار والخزي الذي يطال المريض وأهله ومحيطه.
- الاستخفاف والسخرية: ينظر البعض للمرض النفس والمريض باستخفاف، يسخرون من مشاعر المريض ويتهمونه بالضعف والتخاذل أو حتى الادّعاء والتمثيل، وقد يتحول الأمر إلى سخرية جماعية بين العائلة والأصدقاء، لا تقود إلّا لمزيد من الأذى والألم للمريض.
- الخوف والتجنب: على وجه الخصوص في الأمراض النفسية ظاهرة الأعراض قد يواجه المريض حالةً من التجنّب الاجتماعي خوفاً من تصرفاته أو سلوكه، في الحقيقة بعض المعالجين والأطباء ينصحون بعزل المريض في فترة معينة من العلاج عن المجتمع لأنه يشكّل خطراً على نفسه وعلى الآخرين، لكن هذا ينطبق على اضطرابات وأمراض محددة وليس قاعدةً عامّة.
- الهروب والتستر: قد تحاول عائلة المريض النفسي الهروب من الواقع والتستر على مرض أحد أفرادها خوفاً من الوصمة الاجتماعية، ولا يتزامن هذا في كثير من الحالات مع حصول المريض على العلاج، لأن الحصول على العلاج اعتراف مباشر بالمرض، وهو ما تحاول العائلة تجنبه أصلاً، وفي بعض الحلات تصل محاولة التستر هذه إلى حبس المريض النفسي وعزله اجتماعياً!
بالدرجة الأولى تمثل النظرة الاجتماعية السلبية للمريض النفسي وللمرض النفسي حاجزاً بين المريض وطلب العلاج، يشير المتخصصون أن طلب العلاج النفسي من القرارات الصعبة التي يتخذها المريض أو أهله، وعادةً ما تكون النظرة الاجتماعية من أهم الأسباب التي تجعلهم يتأخرون بطلب العلاج أو يمتنعون عنه تماماً.
كما تؤثر نظرة الناس للمريض النفسي على فاعلية العلاج، لذلك يحاول المعالجون التواصل مع الأشخاص المحيطين بالمريض بشكل مباشر قدر الممكن لتوعيتهم بحقيقة المرض النفسي ووسائل التعامل مع الحالة التي في بيتهم أو محيطهم الاجتماعي.
ولا بد من الانتباه إلى تأثير الوعي بالصحة النفسية والنظرة الإيجابية للعلاج النفسي على تشجيع المرضى أو الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية لطلب المساعدة والحصول على الرعاية والعلاج المناسبين، وأيضاً تعزيز فاعلية العلاج النفسي والحفاظ على مكتسباته المتراكمة.
في الحقيقية يوجد العديد من الأسباب التي قد تمنع الأشخاص الذين يعانون من مشكلة أو مرض نفسي من الذهاب للطبيب النفسي، ومن أهم هذه الأسباب:
- الخوف من النظرة الاجتماعية للمريض النفسي: من أولى الأفكار التي تهاجم المريض النفسي عندما يفكر بطلب المساعدة أو زيارة الطبيب النفسي "ماذا سيقول عني الناس!" فالخوف من النظرة الاجتماعية ووصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي تجعل المريض متردداً وقد تكون السبب الرئيسي لحرمانه من العلاج، والذي قد يكون سحرياً في بعض الحالات وأسهل من المتوقّع!
- الخجل والقلق: قد يشعر الشخص الذي يعاني من مشكلة نفسية من قلق عميق حول طريقة التعبير عن مشكلته أو التشخيص الذي سيحصل عليه، والخجل من الحديث عن بعض الأمور التي يعتقد أنها حساسة، وهذا أيضاً متصل بشعور الخوف والخجل من النظرة الاجتماعية ووصمة العار!
- الاعتقاد بأنه ليس مريضاً: الاعتراف بالمشكلة أو المرض النفسي دافع أساسي لطلب المساعدة من المختصين وزيارة الطبيب النفسي، لكن نحن هنا أمام حالتين، الأولى إنكار المرض النفسي خوفاً من نظرة الناس مع إدراك كامل لوجود مشكلة نفسية، والثانية إنكار المرض النفسي كجزء من المرض نفسه، بمعنى أن يكون المريض النفسي غير قادرٍ على إدراك مرضه من الأصل.
- الخوف من العلاج النفسي: يرتبط العلاج النفسي بالكثير من التصوّرات السلبية، سواء من حيث تكلفة العلاج النفسي ومدة العلاج، أو تأثير العقاقير والأدوية النفسية والخوف من الإدمان عليها، أو حتى افتضاح أسرار المريض عن طريق طبيبه النفسي، وهذه المخاوف من الأسباب التي تجعل كثير من المرضى يتجنبون زيارة الطبيب النفسي.
- الصعوبات المالية: لا يستطيع جميع المرضى تغطية تكاليف العلاج النفسي والطبيب النفسي، وفي بعض الدول لا تدخل زيارة الطبيب النفسي ضمن التأمين الصحي أو تعتبر نوعاً من الرفاهية! كما أن المريض نفسه قد لا يرى أن التكاليف متناسبة مع المكاسب، أما الحقيقة أن المرض النفسي لا يقل خطورةً عن أمراض القلب أو الرئة مثلاً -بل قد يكون من أسبابها- وإذا كان المريض مستعداً للاستدانة لعلاج قلبه أو رئتيه، كذلك الأمر مع الاضطرابات والأمراض العقلية والنفسية!
- صعوبة الوصول لطبيب نفسي جيد: إذا أخذنا بعين الاعتبار قلة عدد مقدمي الرعاية النفسية خصوصاً في المجتمعات غير المهتمة بالصحة النفسية، إلى جانب انخفاض عدد الأشخاص الذين يمكن الاستفادة من تجربتهم مع الطبيب النفسي بسبب قلة عدد المجربين وخجلهم من هذه التجربة، كل ذلك يؤدي لصعوبة الوصول لطبيب نفسي ماهر، وقد يكون سبباً أيضاً لقلة المعالجين المهرة بسبب انخفاض فرص وصول حالات متنوعة إليهم!