اضطراب الشخصية المرتابة وعلامات مرض البارانويا
يمكن القول أن اضطراب الشخصية المرتابة أحد أكثر اضطرابات ومشاكل الشخصية تشابكاً وتداخلاً مع حالات أخرى وتفاوتاً في الدرجات والاتجاهات، وهذا ما يجعل صفات الارتياب صفات منتشرة ومشتركة مع العديد من حالات الاضطراب النفسي أو العقلي أو العاطفي، فما هو تعريف الشخصية الارتيابية، وما صفات الشخصية المرتابة؟
اضطراب الشخصية المرتابة أو جنون الارتياب البارانويا (Paranoid Personality Disorder) هو نوع من اضطرابات الشخصية يتميز بنمط من التفكير والسلوك يقوم على عدم الثقة بالآخرين والشك المرضي حيال تصرفاتهم وأفكارهم ورغباتهم وأقوالهم، ويعرف أيضاَ باسم اضطراب الشخصية الزوراني أو الشخصية البارانويدية.
يعاني الأشخاص المصابون بجنون الارتياب البارانويا من هواجس وأوهام الاضطهاد والتآمر، والشكوك المبالغ بها حيال نوايا الآخرين، وغالباً ما يعيشون في حالة من القلق والترقب والخوف المرضي لاعتقادهم أنهم مستهدفون من الجميع، سواء المقرّبين أو الغرباء أو حتى الحكومات والمنظمات وصولاً للكائنات الفضائية.
حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية (DSM5) يصنف اضطراب الشخصية الزوراني البارانويا ضمن فئتين (المرضي وما قبل المرضي) حسب شدة الأعراض وارتباط جنون الارتياب بأمراض واضطرابات عقلية أخرى أهمها الفصام والاكتئاب واضطراب ثنائي القطب.
يتم استخدام تسمية جنون العظمة والبارانويا بالتبادل لوصف اضطراب الشخصية المرتابة في كثير من الأحيان، لكن جنون العظمة يعتبر أحد أعراض أو مظاهر الشخصية البارانويدية وأمراض عقلية أخرى، حيث يعاني المصابون بالفصام واضطرابات الذهان واضطراب النرجسية من مظاهر جنون العظمة.
ويتم تعريف جنون العظمة (Megalomania) أنه الاعتقاد المبالغ به بالأهمية وامتلاك قدرات فائقة للطبيعة وقوة استثنائية، يرتبط هذه الاعتقاد غالباً بوهم الاضطهاد والشكوك المرضية والشعور أن الشخص مستهدف بسبب أهميته.
أهم علامات وصفات الشخصية المرتابة الزورانية أنها تعاني من شكوك غير حقيقية ولا تستند لأسس كافية، وتعيش هاجس الاضطهاد من الأشخاص المحيطين بها، كما يعاني المصاب بجنون الارتياب من الحساسية المفرطة تجاه ما يعتقد أنه أذى أو إهانة أو مؤامرة، ما يرتبط بردود فعل عدوانية وغير مفهومة أو متوقعة، حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية DSM5:
- الشك بنوايا الآخرين دون مبرر كافٍ: يعاني مريض الشخصية الارتيابية حالة مستمرة من سوء الظن وهاجس أن هناك من يتربص به ويرغب بخداعه أو إلحاق الأذى به، وعلى هذا الأساس يكون لديه شكوك بنوايا معظم الأشخاص من حوله، ويفسر الأقوال والتصرفات العادية باعتبارها مؤامرة أو مكيدة تهدف لاضطهاده وإلحاق الأذى به.
- يعاني من صعوبة الثقة بالآخرين: لا يثق مريض البارانويا بالآخرين ولا يثق بنفسه أيضاً، يجعله ذلك متردداً في التواصل الاجتماعي وبناء علاقات جديدة، وغير قادرٍ على التعايش مع العلاقات القائمة بشكل سليم، وغالباً ما تكون الكلمات العادية والمزاح مفتاحاً للأفكار الارتيابية والشكوك.
- يشعر دائماً بالإهانة والاضطهاد: من أهم أعراض الشخصية الارتيابية الزورانية الشعور المستمر بالاضطهاد وأن جميع المحيطين بيه متآمرون، يقوده ذلك لردود فعل عنيفة مبنية على سيناريوهات وهمية حول العلاقات الخفية بين الأشخاص والمنظمات والتي تصب في النهاية بمصلحة مشتركة هي أذيته أو التخلص منه!
- الخوف المرضي من الخيانة: الشخصية المرتابة البارانويدية في الزواج تعاني من شعور مستمر بالشك بإخلاص الشريك، ويفسر المصاب بجنون الارتياب (الزوج أو الزوجة) التصرفات العادية التي يقوم بها الشريك باعتبارها تمويهاً للخيانة الزوجية، ولا يستثني شريكه من المشاركة في المؤامرات التي يعتقد أنها تحاك ضده.
- يعاني من الحساسية الزائدة: لأن مريض البارانويا يفسّر جميع التصرفات والأقوال بطريقته الخاصة، غالباً ما يكون شخصية حساسة وسريعة الغضب والانفعال، وتتحكم هواجسه الواهمة برد فعله.
- ردود فعله قد تكون عدائية أو متحفظة: نتيجة فقدان الثقة بمن حوله والشك بنوايا الآخرين، كثيراً ما يكون الشخص الارتيابي متحفظاً أو عدائياً في ردود فعله، فتتقلب ردود الفعل هذه بين الكتمان والسرية في أفعاله ورغباته، أو التصرف بغضب وعصبية وعدائية تجاه مواقف لا تستحق ذلك مثل المزاح أو التعرض للنقد.
- يعاني من التوتر في المواقف الاجتماعية: يميل الشخص الارتيابي للانعزال وقلة الاختلاط مع الآخرين، فالمواقف الاجتماعية تسبب له التوتر، لأنه في هذه المواقف يجد نفساً مجبراً على تفسير تصرفات وأقوال المحيطين به، كما يخاف من الخطأ أمامهم حتى لا يتعرض للسخرية أو الانتقاد، وبهذا يكون الانعزال والوحدة أكثر راحة بالنسبة له.
من الصعب تحديد سبب عام دقيق لاضطراب الشخصية المرتابة أو الزوراني، ومن الشائع أن يكون اضطراب الارتياب مصاحباً لاضطرابات عقلية ونفسية أخرى ذهانية وعصابية، والأسباب الأكثر شيوعاً لاضطراب الارتياب وجنون العظمة هي العوامل الوراثية والتجارب السيئة في الطفولة المبكرة، ومن الأسباب المحتملة لجنون الارتياب:
- الجينات والعوامل الوراثية: من الشائع أن يكون في عائلة المصابين باضطراب الشخصية الزوراني أشخاص مصابون باضطرابات نفسية وعقلية وخصوصاً الفصام واضطراب الشخصية الحدية واضطراب ثنائي القطب، وتعتبر العوامل الجينية والوراثية سبباً رئيسياً لاضطراب الشخصية المرتابة.
- تجارب الطفولة المبكرة: من الأسباب الرئيسية لاضطراب الشخصية الارتيابية التعرض لصدمات نفسية أو عاطفية عنيفة في الطفولة المبكرة سواء بسبب أحداث معينة مثل الفقد والحرمان والتحرش، أو بسبب قسوة الطفولة وإساءة المعاملة المستمرة، أو أنماط التربية السيئة مثل التربية القائمة على الشك واللوم والكمالية العصابية عند الأبوين.
- الصدمات النفسية الشديدة: على الرغم أن اضطراب الشخصية المرتابة غالباً ما يظهر في مرحلة المراهقة وتكون له جذور جينية ونفسية، لكن الصدمات الشديدة في أي وقت من العمر قد تطوّر درجة من درجات جنون الارتياب والشك المرضي، مثل اضطراب ما بعد الصدمة في الحروب أو الفقدان، وتجارب الخيانة الزوجية.
- العلاقات الاجتماعية السامّة: قد تكون العلاقات الاجتماعية والأسرية المبنية على الشكوك والريبة سبباً محتملاً لتطوّر الشخصية الزورانية أو البارانويدية، حيث تؤثر طريقة تعامل الآخرين مع الشخص على طريقة تفكيره وتجعله شخصاً شديد الحذر ويعاني من شكوك وهواجس غير عقلانية، لكن هذه الحالة غالباً لا تصل إلى درجة الارتياب المرضي.
- اضطرابات الصحة العقلية المصاحبة: كثيراً ما تكون أعراض أو صفات الشخصية الارتيابية مصاحبة لاضطرابات عقلية أخرى، مثل اضطراب الشخصية الحدية، أو الشخصية الفصامية، أو الشخصية الاجتنابية أو الفوبيا والوسواس القهري.
يعتمد تشخيص اضطراب الشخصية الزوراني أو الارتيابي على مجموعة من المؤشرات، أهمها سلوك المريض كما يصفه المقرّبون وكما يصفه المريض نفسه، والقصص التي يرويها المصاب بجنون الارتياب والتي تعبّر عن حدة الاضطراب ودرجته.
كما يتضمن تشخيص جنون الارتياب بعض الاختبارات النفسية المخصصة، وفهماً واسعاً للتاريخ العائلي لرصد الأشخاص المصابين باضطرابات ذات صلة وفهم تأثير البيئة، وينتهي التشخيص بتمييز الاضطراب إن كان اضطراب الشخصية الزوراني أم اضطراب آخر، وتحديد درجته وخطة العلاج المناسبة.
علاج اضطراب الشخصية الارتيابية يتطلب متخصصاً نفسياً خبيراً مدرّباً للتعامل مع هذه الحالات، فالشخص المصاب بمرض جنون الارتياب يعاني مسبقاً من شكوك عميقة وقهرية تجعله يرفض غالباً الاعتراف بمرضه ويعتقد أن العلاج أيضاً جزء من المؤامرة التي تسعى لإيذائه.
يعتمد علاج اضطراب الشخصية الزوراني على مجموعة من تقنيات العلاج النفسي مثل العلاج بالكلام والعلاج السلوكي المعرفي، بالتزامن مع استخدام مجموعة من الأدوية المناسبة لحالات جنون الارتياب والعظمة مثل أدوية الفصام ومضادات الاكتئاب، وأهم خطوات علاج اضطراب الشخصية المرتابة:
- تقييم الحالة: أولى خطوات علاج مريض الشخصية المرتابة هي إجراء فحص لتشخيص وتقييم الحالة وتحديد درجة الاضطراب وفئته، من خلال دراسة التاريخ المرضي للحالة وفهم حدة الأعراض ونمط استمراريتها وتكرارها، لتحديد نوع العلاج الذي يجب التركيز عليه بشكل أكبر على أساس الحالة الخاصة لكل فرد.
- البدء بالعلاج النفسي: يقوم العلاج النفسي على عدة أسس مثل الحوار مع مريض الشخصية المرتابة لفهم أفكاره ودوافعه، والتركيز على تقبل العلاج والثقة بالمعالج ومواجهة أسباب القلق والاكتئاب.
- العلاج السلوكي المعرفي: يقوم العلاج السلوكي المعرفي لمرض البارانويا على قاعدتين، وهي التعرف على المشكلة وفهم الحالة بشكل جيد من قبل المريض والاعتراف بها ومواجهة الحقائق المرتبطة بها، ومن ثم العمل على تعديل السلوكيات وغرس عادات جديدة تقوم على الفهم الجديد الذي كوّنه المريض عن نفسه وحالته.
- العلاج الدوائي لجنون الارتياب: يستخدم العلاج الدوائي في حالات معينة فقط من مرضى اضطراب الشخصية الزوراني وليس مع جميع الحالات، وهي التي يكون فيها أعراض جسدية مثل قلة النوم أو رفض الطعام أو وجود وساوس قهرية قد تسبب إيذاء النفسي، بالإضافة لمرافقة الحالة اضطرابات الاكتئاب والقلق.
- العلاج الاجتماعي: يهدف العلاج الاجتماعي لمرضى اضطراب الشخصية الارتيابية لتوعية المحيطين بالمريض بطبيعة مرضه وأعراضه وكيفية التعاون مع المعالج لزيادة فاعلية العلاج، وعادةً ما يتم استهداف الدوائر الاجتماعي الأشد قرباً للمريض مثل الأبوين والشريك والأبناء والأصدقاء المقرّبين.
يتطلب التعامل مع مريض الشخصية الارتيابية فهماً مسبقاً لطبيعة الاضطراب والطريقة التي يفكر بها المصاب به، ما يساعد على اختيار وسائل التواصل مع المريض من جهّة، واحتواء نوبات الغضب أو العدائية أو العزلة التي يمر بها المصاب باضطراب الشخصية الزوراني من جهة أخرى، وأهم نصائح التعامل مع الشخصية الارتيابية:
- لا تحاول علاج الشخصية الزورانية بنفسك! اضطراب الشخصية الزوراني من الاضطرابات العقلية المميزة والتي لا يمكن علاجها بوسائل شعبية أو فردية من أشخاص غير متخصصين، بل أن محاولات معالجة المصاب بجنون الارتياب من أشخاص غير متخصصين قد تسبب تدهور الحالة وزيادة حدة الأعراض، شجّعه على العلاج ولا تحاول معالجته بنفسك!
- راقب أفعالك وأقوالك: التصرفات الطبيعية التي نقوم بها بشكل عفوي والتي لا نقصد منه شيء سيء هي محل شك بالنسبة للشخص المرتاب، فعندما تمزح معه مثلاً أو تنتقد بعض تصرفاته بطريقة مهينة، فهو لن يفهم الأمر على ما هو عليه، وإنما سوف يفهم هذه الأشياء على أنها إثبات لشكوكه وريبته.
- تجنب توجيه الإهانات أو الاتهام بالجنون: في الحالات التي تحصل فيها خلافات أو مواجهات مع الشخصية المرتابة، قد يدفعك الغضب والانفعال لتوجيه الإهانة له أو نعته بالمرض والجنون بسبب شكوكه الزائدة، وهذا سوف يسبب نفوره وفقدان الثقة بك ويؤثر على علاقتك به، وقد يكوّن اعتقاد بأن شكوكه بنواياك صحيحة وكلامك معه هو إثبات لذلك.
- اعمل على كسب ثقة الشخص المرتاب: مثل التعامل دائماً بوضوح وعدم الخداع أو إخفاء أي أسرار عنه، وخاصة بالنسبة للشريك العاطفي، حيث الشك قد يدمر العلاقة برمتها، فيجب أن يعرف الشريك أين ذهب شريكه ومع من يتعامل ولماذا كان مشغول بالفترة الأخيرة، وتجنب وجود أسرار شخصية أو الكذب أو إخفاء حتى بعض الأمور البسيطة.
- تعامل معه بتقبل واحترام: التقبل والاحترام في المعاملة مع الشخص المرتاب من شأنه أن يخفف من شكوكه بنواياك ورغباتك، فهو في هذه الحالة لا يجد نفسه مضطراً لتكوين حالة تنافس أو مواجهة معك، بل يجدك من الأشخاص الجديرين بالثقة، ولكن يجب عدم المبالغة في مسايرته وتقبل كل ما يصدر عنه، فهذا من شأنه أن يكون لديه اعتقاد بأن تضمر أشياء خلف هذا التقبل الدائم.